فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الانتصاف للناصر: إذا فرقت هذا التشبيه، كان تصميمهم على الكفر مشبهها بالأغلال، وكان استكبارهم عن قبول الحق، وعن الخضوع، والتواضع لاستماعه، مشبهًا بالإقماح؛ لأن المقمح لا يطأطئ رأسه. وقوله: {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} تتمة للزوم الإقماح لهم، وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبهًا بسدٍّ من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهًا بسدٍّ من قدامهم. انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب: والتمثيل أحسن منه. انتهى.
ثم قال الناصر: يحتمل أن تكون الفاء في: {فَهُمْ مُقْمَحُوْنَ} للتعقيب، كالفاء الأولى، أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الإقماح؛ فإن اليد، والعياذ بالله، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن، دافعة بها ومانعة من وطأتها. ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيّل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم، مشبهًا بغلّ الأيدي؛ فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.
وإنما اختير هذا؛ لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه، فورد عليه أن يكون أجنبيًا في البين، وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله: {حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7]، والأول أدق، وبالقبول أحق.
{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} أي: خوفتهم بالقرآن: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: لا يريدون أن يؤمنوا، ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش، الذين هلكوا في بدر، وكانوا طواغيت الكفر، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك.
{إِنَّمَا تُنذِرُ} أي: الإنذار المترتب عليه النفع: {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: القرآن بالتأمل فيه والعمل به: {وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} أي: عمل الصالحات لوجهه، وإن كان لا يراه.
{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي: لذنوبه في الدنيا: {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: ثواب حسن في الجنة.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} أي: للبعث: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي: نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر: {وَآثَارَهُمْ} أي: ما تركوه من سنة صالحة، فعُمل بها بعد موتهم، أو سنة سيئة فعُمل بها بعدهم: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ، أو العلم الأزلي.
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاَ} أي: مثّل لأهل مكة مثلًا: {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي: أذكر لهم قصة عجيبة، قصة أصاب القرية: {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي: الدعاة إلى الحق، ورفض عبادة الأوثان.
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي: فقوّيناهما برسالة ثالث: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ}.
{قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} أي: التبليغ عن الله ظاهرًا بيّنًا لا سترة فيه، وقد خرجنا من عهدته.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: تشاءمنا بكم، فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء، نسبوه إليهم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه، وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه؛ فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا بركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وعن مشركي مكة: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]، أفاده الزمخشري {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا} أي: عن دعوتكم إلى التوحيد: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{قَالُوا} أي: الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي: {أَئِن ذُكِّرْتُم} أي: وعظتم بما فيه سعادتكم. وجواب الشرط محذوف، ثقة بدلالة ما قبله عليه؛ أي: تطيرتم، وتوعدتم بالرجم والتعذيب: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: في الشؤم والعدوان.
{وَجَاء مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي: يسرع في المشي، حيث سمع بالرسل: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي: بالإيمان بالله وحده.
{اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} أي: جُعلًا، ولا مالًا على الإيمان: {وَهُم مُّهْتَدُونَ} أي: في أنفسكم بالكمالات، والأخلاق الكريمة، والآداب الشريفة؛ أي: فيجدر أن يُتأسّى بهم.
{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي: خلقني، وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه. والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره؛ كما ينبئ عنه قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت.
{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} أي: فأضرع إليها وأعبدها، وهي في المهانة والحقارة بحيث {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ} أي: من ذلك الضر، بالنصر والمظاهرة. وفيه تحميق لهم؛ لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق، كيف يعبد؟
{إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي: فاسمعوا إيماني واشهدوا به. قال السمين: الجمهور على كسر النون، وهي نون الوقاية، حذفت بعدها ياء الإضافة، مجتزئ عنها بكسرة النون، وهي اللغة العالية. وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلظ. انتهى.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} أي: ثوابًا على صدق إيمانك، وفوزك بسببه بالشهادة: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي: ليقبلوا على ما أقبلت عليه، ويضحوا لأجله النفس والنفيس. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

{يس (1)}.
التحقيق أنه من جملة الحروف المقطّعة في أوائل السور، والياء المذكورة فيه ذكرت في فاتحة سورة مريم في قوله تعالى: {كهيعص} [مريم: 1] والسين المذكورة فيه ذُكرت في أول الشعراء والقصص. في قوله: {طس} [النمل: 1] وفي أول النمل في قوله: {طس} وفي أول الشورى في قوله تعالى: {حمعاساقا} [الشورى: 12].
وقد قدمنا الكلام مستوفى على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود.
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}.
قد بيّنا أنّ موجب التوكيد لكونه من المرسلين، هو إنكار الكفارل لذلك في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [البقرة: 252].
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)}.
لفظة ما في قوله تعالى: {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} قيل نافية وهو الصحيح، وقيل موصولة، وعليه فهو المفعول الثاني لتنذر. وقيل مصدرية.
وقد قدمنا دلالة الآيات على أنها نافية وأنّ مما يدل على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله بعده: {فَهُمْ غَافِلُونَ} ولأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار، لا الإنذار، وهذا هو الظاهر مع آيات أخر، دالة على ذلك كما أوضحنا ذلك كلّه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)}.
الظاهر أن القول في قوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} وفي قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} [فصلت: 25] الآية. وفي قوله تعالى: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] الآية. وفي قوله تعالى: {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} [يس: 70]. وقوله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} [الصافات: 31] والكلمة في قوله تعالى: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 9697] وفي قوله تعالى: {قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71] أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة: {حقت عليهم كلمات ربك} بصيغة الجمع، هو قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] و[السجدة: 13] كما دلت على ذلك آيات من كتاب الله تعالى: كقوله تعالى في آخر سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 118119] وقوله تعالى في السجدة: {وَلَوْ شئنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
وقوله تعالى في أخريات ص: {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 8485].
وقوله تعالة في هذه الآية الكريمة: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} يدلّ على أن أكثر الناس من أهل جهنم، كما دلّت على ذلك آيات كثيرة كقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] و[الرعد: 1] و[غافر: 59]، {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} [الصافات: 71]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8و67و103و121و174و190].
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116] الآية.
وبيّنا بالسنة الصحيحة في أول سورة الحج: أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة، وأن نصيب الجنة منها واحد.
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}.
الأغلال: جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيذي إلى الأعناق، والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين، والمقمح بصيغة اسم المفعول، هوالرافع، رأسه. والسد بالفتح والضم: هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه.
وقوله: {فَأغْشَيْنَا} أي جعلنا على أبصارهم الغشاوة، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى: {وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وقوله تعالى: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]. وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة ** فلما انجلت قطعت نفسي ألومها

والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7] صرفهم الله عن الإيمان صرفًا عظيمًا مانعًا من وصوله إليهم، لأن من جعل في عنقه غلّ، وصار الغل إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعًا لا يقدر أن يطأطئه، وجعل أمامه سدّ، وخلفه سدّ وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف، ولا جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضرّ عنهم، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
وهذا المعنى الذي دّلت عليه هذه الآية من كونه جلّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57] وقوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] وقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} [الأنعام: 125] وقوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] وقوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وقوله تعالى: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأولئك هُمُ الغافلون} [النحل: 108] وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20]. وقوله تعالى: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم، لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم الله على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار، لأن من شؤم السيئات أن الله جلّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير وجزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقًا.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] فالباء سببية، وفي الآية: تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم، وكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل: أي فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقد دلّت هذه الآية على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وقوله تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم: أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلًا} أن المراد بذلك الأغلال، التي يعذبون بها في الأخرة كقوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 7172] خلاف التحقيق، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا كما أوضحنا وقرأ هذا الحرف. حمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: {سَدًّا} بالفتح في الموضعين، وقرأه الباقون بضم السين، ومعناهما واحد على الصواب. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب}.
تقدم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة} [فاطر: 18].
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.