فصل: تفسير الآيات (28- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (28- 32):

قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان سبحانه قد جعل أكثر جند هذا النبي الكريم من الملائكة فأيده بهم في حالتي المسمالمة والمصادمة وحرسه ممن أراده في مكة المشرفة وبعدها بهم، ذكره ذلك بقوله عاطفًا على ما تقديره: وما أنزلنا على قومه قبل قتلهم له من جند من السماء يحول بينهم وبين ذلك كما فعلنا بك إذ أراد أبو جهل قتلك بالصخرة وأنت ساجد عند البيت وغيره بغير ذلك مما هو مفصل في السير، وأما بعد الهجرة ففي غزوة الأحزاب إذ أرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا ردتهم خائبين، وفي غزوة أحد وبدر وحنين وغير ذلك: {وما أنزلنا} بما لنا من العظمة {على قومه} أي صاحب يس {من بعده} أي بعد قتله، وأعرق في النفي بقوله: {من جند} وحقق المراد بقوله: {من السماء} أي لإهلاكهم، وحقق أن إرسال الجنود السماوية أمر خص به صلى الله عليه وسلم لأنه لحكم ترجع إلى النصرة بغير الاستئصال فإنهم يتبدون في صور الآدميين ويفعلون أفعالهم، وأما عذاب الاستئصال فإن السنة الإلهية جرت بأنه لا يكون بأكثر من واحد من الملائكة لأنه أدل على الاقتدار، فلذلك قال تعالى: {وما كنا منزلين} أي ما كان ذلك من سنتنا، وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير {إن} أي ما {كانت} أي الواقعة التي عذبوا بها {إلا صيحة} صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم؟ وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله: {واحدة} أي لحقارة أمرهم عندنا، ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله: {فإذا هم خامدون} أي ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت لهم حركة يومًا من الدهر، ومن المستجاد في هذا قول أبي العلاء أحمد ابن سليمان المعري:
وكالنار الحياة فمن رماد ** أواخرها وأولها دخان

ولما أخبر عنهم سبحانه بما هو الحق من أمرهم، ورغبهم بما ضرب لهم من المثل ورهبهم ولم ينفعهم ذلك، أنتج التأسيف عليهم وعلى الممثل بهم ومن شابههم فقال تعالى: {يا حسرة} أي هذا الحال مستحق لملازمة حسرة عظيمة {على العباد} فكأنه قيل لها: تعالى فهذا من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، فإن هؤلاء أحقاء بأن يتحسر عليهم، والحسرة: شدة الندم على ما فات، فأحرق فقده وأعيى أمره، فلا حيلة في رده، ويجوز أن يكون المعنى أن العباد- لكثرة ما يعكسون من أعمالهم- لا تفارقهم أسباب الحسرة ولا حاضر معهم غيرها، فلا نديم لهم إلا هي، ولا مستعلي عليهم وغالب لهم سواها.
ولما كان كأنه قيل: أيّ حال؟ قال مبينًا له ومعللًا للتحسر بذكر سببه: {ما يأتيهم} وأعرق في النفي والتعميم بقوله: {من رسول} أي رسول كان في أيّ وقت كان {إلا كانوا به} أي بذلك الرسول {يستهزءون} أي يوجدون الهزء، والرسل أبعد الخلق من الهزء حالًا ومقالًا وفعالًا، ومن الواضح أن المستهزئ بمن هذا حاله هالك فهو جدير بملازمة الحسرة وأن يتحسر عليه.
ولما أتم سبحانه الخبر عن أول أمر الممثل بهم وأول أمر المؤمن بهم وآخره، وأذن هذا التحسر بأن هلاك المكذبين أمر لابد منه، دل عليه معجبًا عن عدم نظرهم لأنفسهم ومهددًا للسامعين منهم، ومحذرًا من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله: {ألم يروا} أي يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علمًا هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار: {كم أهلكنا} على ما لنا من العظمة، ودل قوله: {قبلهم}- بكونه ظرفًا لم يذكر فيه الجار- على أن المراد جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد: انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال: {من القرون} أي الكثيرة الشديدة الضخمة، والقرن- قال البغوي: أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود {أنهم} أي لأن القرون.
ولما كان المراد من رسول ليس واحدًا بعينه، وكانت صيغة فعول كفعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع، أعاد الضمير للجميع فقال: {إليهم} أي إلى الرسل خاصة من حيث كونهم رسلًا {لا يرجعون} أي عن مذاهبهم الخبيثة، ويخصون الرسل بالاتباع فلا يتبعون غيرهم أصلًا في شيء من الأشياء الدينية او الدنيوية فاطردت سنتنا ولن تجد لسنتنا تبديلًا في أنه كلما كذب قوم رسولهم أهلكناهم ونجينا رسولهم ومن تبعه، أفلا يخاف هؤلاء أن نجريهم على تلك السنة القديمة القويمة ف أن تعليلية على إرادة حذف لام العلة كما هو معروف في غير موضع، وضمير {أنهم} للمرسل إليهم، وضمير {إليهم} للرسل، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع، و{يرجعون} هنا نحو قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21] أي عن طرقهم الفاسدة- وهذا معنى الآية بغير شك، وليس بشيء قول من قال: المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك، ولو سلم لم يحسن، لأن السياق ليس له، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء، فأنكر عليهم استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه، أطرد ذلك من سنته ولم يتخلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم، لم يتخلف في واحدة منهم، وكلهم تعرف العرب أخبارهم، وينظرون آثارهم، وكذا يعرفون قصة موسى عليه السلام مع فرعون فالسياق للتهديد فصار المعنى: ألم ير هؤلاء كثرة من أهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره عن الحسن، وقالوا: إنها استئنافية، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال: لم أهلكهم؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب، يكون ذلك مانعًا عن سلوكه، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له: ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك، فيكون ذلك زاجرًا له ورادًّا عن التمادي فيه، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط، وذلك أكف له من أن يقال له: ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره، فإن هذا أمر معلوم له، غير مجدد فائدة، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضًا لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديدًا، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعًا أو يقع الحرب وتحصل الفتن، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع- والله الموفق للصواب.
ولما كان كثير من أهل الجهل وذوي الحمية والأنفة لا يبالون بالهلاك في متابعة الهوى اعتمادًا على أن موتة واحدة في لحظة يسيرة أهون من حمل النفس على ما لا تريد، فيكون لهم في كل حين موتات، أخبر تعالى أن الأمر غير منقض بالهلاك الدنيوي، بل هناك من الخزي والذل والهوان والعقوبة والإيلام ما لا ينقضي أبدًا فقال: {وإن كل} أي وإنهم كلهم، لا يشذ منهم أحد، وزاد في التأكيد لمزيد تكذيبهم بقوله: {لما} ومن شدد {لما} فالمعنى عنده وما كل منهم إلا وأشار إلى أنهم يأتون صاغرين راغمين في حالة اجتماعهم كلهم في الموقف لا تناصر عندهم ولا تمانع وليس أحد منهم غائب بحال التخلف عن الانتصار عليه فقال: {جميع} وأشار إلى غرابة الهيئة التي يجتمعون عليها بقوله: {لدينا} وزاد في العظمة بإبرازه في مظهرها، وعبر باسم الفاعل المأخوذ من المبني للمفعول جامعًا نظرًا إلى معنى {كل} لأنه أدل على الجمع في آن واحد وهو أدل على العظمة: {محضرون} أي في يوم القيامة بعد بعثهم بأعيانهم كما كانوا في الدنيا سواء، إشارة إلى أن هذا الجمع على كراهة منهم وإلى أنه أمر ثابت لازم دائم، كأنه لعظيم ثباته لم يزل، وأنه لابد منه، ولا حيلة في التفصي عنه، وأنه يسير لا توقف له غير الإذن، فإذا أذن فعله كل من يؤمر به من الجنود كائنًا من كان، وما أحسن ما قال القائل:
ولو أنا متنا تركنا ** لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ** ونسأل بعدها عن كل شي

. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)}.
إشارة إلى هلاكهم بعده سريعًا على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال ههنا: {وَمَا أَنزَلْنَا} بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن {قِيلَ ادخل الجنة} [يس: 26] بإسناد القول إلى غير مذكور، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم، وأما في: {ادخل الجنة} فقال قيل ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالدًا فيها، وكثيرًا ما ورد في القرآن قوله تعالى: {وَقِيلَ أَدْخِلُواْ} إشارة إلى أن الدخول يكون دخولًا بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رءوس الأشهاد يهنئه كل أحد.
المسألة الثانية:
لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قومًا لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلًا يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قومًا له؟ نقول لوجهين أحدهما: ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر، وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما: أن العذاب كان مختصًا بأقارب ذلك، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
المسألة الثانية:
خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جندًا قبله أيضًا فما فائدة التخصيص؟ نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند.
المسألة الرابعة:
قال: {مِّنَ السماء} وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندًا من الأرض فما فائدة التقييد؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن يكون المراد وما أنزلنا عليهم جندًا بأمر من السماء فيكون للعموم وثانيهما: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندًا لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم.
المسألة الخامسة:
{وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أية فائدة فيه مع أن قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا} يستلزم أنه لا يكون من المنزلين؟ نقول قوله: {وَمَا كُنَّا} أي ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال، أو نقول: {وَمَا أَنزَلْنَا} {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} في مثل تلك الواقعة جندًا في غير تلك الواقعة، فإن قيل فكيف أنزل الله جنودًا في يوم بدر وفي غير ذلك حيث قال: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]؟ نقول ذلك تعظيمًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان تحريك ريشة من جناح ملك كافيًا في استئصالهم وما كان رسل عيسى عليه السلام في درجة محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)}.
ثم بين الله تعالى ما كان بقوله: {إِن كَانَتْ} الواقعة {إِلاَّ صَيْحَةً} وقال الزمخشري أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر، لكنه تعالى أنث لما بعده من المفسر وهو الصيحة.
وقوله تعالى: {واحدة} تأكيد لكون الأمر هينًا عند الله.
وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ خامدون} فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة وفي وقتها لم يتأخر، ووصفهم بالخمود في غاية الحسن وذلك لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك، أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمنًا كان ينصحهم، وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الحالية فإذن كانوا كالنار الموقدة، ولأنهم كانوا جبارين مستكبرين كالنار ومن خلق منها فقال: {فَإِذَا هُمْ خامدون} وفيه وجه آخر: وهو أن العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته التي خلقه الله عليها ويصير العنصر الآخر بإرادة الله فالأحجار تصير مياهًا، والمياه تصير أحجارًا وكذلك الماء يصير هواء عند الغليان والسخونة والهواء يصير ماء للبرد ولكن ذلك في العادة بزمان، وأما الهواء فيصير نارًا والنار تصير هواء بالاشتعال والخمود في أسرع زمان، فقال خامدين بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة.
ثم قال تعالى: {يا حسرة عَلَى العباد} أي هذا وقت الحسرة فاحضري يا حسرة والتنكير للتكثير، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الألف واللام في العباد يحتمل وجهين أحدهما: للمعهود وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك وثانيهما: لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين.
المسألة الثانية:
من المتحسر؟ نقول فيه وجوه الأول: لا متحسر أصلًا في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب.
وههنا بحث لغوي: وهو أن المفعول قد يرفض رأسًا إذا كان الغرض غير متعلق به يقال إن فلانًا يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطي إذ المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل، والوجه فيه ما ذكرنا، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني: أن قائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيمًا للأمر وتهويلًا له وحينئذٍ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني، أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة، أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة، ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال: {يا حَسْرَةً} بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء، فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث: المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول: اللهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال: يا ليت قومي يعلمون، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه.