فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} ففيه وجوه الأول: أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر، يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به، فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله، ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها، كان كالمستهزئ بها، وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة.
وثانيها: المراد: ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث.
والثالث: قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية، ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «من طلق، أو حرر، أو نكح، فزعم أنه لاعب فهو جد».
والرابع: قال عطاء: المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصرًا عليه أو على مثله، كان كالمستهزئ بآيات الله تعالى، والأقرب هو الوجه الأول، لأن قوله: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} تهديد، والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديدًا على تركها، لا على شيء آخر غيرها. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال ابن عطية، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وخصها الكلبي بقوله: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {ولا تمسكوهنّ}.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبًا أو هازلًا، أو راجع كذلك، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح، وأمر الحيض والإيلاء، والطلاق والعدة، والرجعة والخلع، وترك المعاهدة، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج، وله عليها، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الأحكام، وحدّ حدودًا لا تتعدى، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدٍّ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء، هزؤًا، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد، لأنها من أحكام الله، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه، وبين العبد والناس. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُوًا}. قال علماؤنا:
والأقوال كلها داخلة في معنى الآية؛ لأنه يُقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوًا. ويُقال ذلك لمن كفر بها، ويُقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها؛ فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية.
وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه.
ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلًا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى. وخرّج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلِهن جِدّ النكاح والطلاق والرّجعة».
وروي عن عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدّرداء كلهم قالوا: ثلاث لا لعب فيهنّ واللاعب فيهنّ جادّ: النكاح والطلاق والعِتاق.
وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولًا مع الإصرار فعلًا؛ وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ} الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها. لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها. لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه. ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدى منه وذلك في قوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.
فقال جماعة منهم هي: الزنا، وقال قوم هي: النشوز والعصيان وبذاء اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير: إنه جيد، فإذا زنت أو أساءت بلسانها، أو نشزت جازت مضاجرتها. لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان على العبد أن يقتفي أثر السيد في جميع أفعاله قال: {واذكروا نعمة الله} أي الذي له الكمال كله ثم عبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى عموم النعم وغلبتها فقال: {عليكم} هل ترون فيها شيئًا من وادي العبث بخلوه عن حكمة ظاهرة {وما} أي وخصوا بالذكر الذي {أنزل عليكم من الكتاب} الذي فاق جميع الكتب وعلا عن المعارضة فغلب جميع الخلق بما أفادته أداة الاستعلاء {والحكمة} التي بثها فيه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم حال كونه {يعظكم} أي يذكر بما يرقق قلوبكم {به} أي بذلك كله {واتقوا الله} أي بالغوا في الخوف ممن له الإحاطة بجميع صفات الكمال باستحضار ما له من العظمة التي لا تتناهى ونبه على عظيم أمره بقوله: {واعلموا} وبتكرير الاسم الأعظم في قوله: {أن الله} فلم يبق وراء ذلك مرمى {بكل شيء} أي من أمور النكاح وغيرها {عليم} أي بالغ العلم فاحذروه حذر من يعلم أنه بحضرته وكل ما يعمله من سر وعلن فبعينه. قال الحرالي: والتهديد بالعلم منتهى التحديد- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد، رغبهم أيضًا في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم، فبدأ أولًا بذكرها على سبيل الإجمال فقال: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا، فقال: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به. اهـ.

.قال أبو حيان:

و: الكتاب، القرآن، و: الحكمة، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى}.
وقيل: وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه، فلا اجتهاد، وذكر: النعم، لا يراد به سردها على اللسان، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها، فعبر بالسبب عن المسبب، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقًا بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدرًا من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت. اهـ.

.قال السعدي:

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} عموما باللسان ثناء وحمدا، وبالقلب اعترافا وإقرارا، وبالأركان بصرفها في طاعة الله، {وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} أي: السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها، وطرق الشر وحذركم إياها، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقيل: المراد بالحكمة أسرار الشريعة، فالكتاب فيه، الحكم، والحكمة فيها، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه، وكلا المعنيين صحيح، ولهذا قال: {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: بما أنزل عليكم، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة، أسرار الشريعة، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة، والترغيب، أو الترهيب، فالحكم به، يزول الجهل، والحكمة مع الترغيب، يوجب الرغبة، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة. اهـ.

.قال الألوسي:

{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والنعمة إمّا عامة فعطف {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم} عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارًا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدًا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة وهو قريب من عطف التفسير ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل: ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالًا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنيث لأنه مبني عليها كما في قوله:
فلولا رجاء النصر منك وهيبة ** عقابك قد كانوا لنا كالموارد

والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيهًا للمأمورين وتشريفًا لهم، و{مَا} موصولة حذف عائدها من الصلة، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مّنَ الكتاب والحكمة} بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارًا للفضل وإيماءًا إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال

اهـ.

.قال ابن عاشور:

ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال: {واذكروا نعمت الله عليكم} فذكرهم بما أنعم عليهم بعد الجاهلية بالإسلام، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103] فكما أنعم عليكم بالإنسلاخ عن تلك الضلالة، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام.
وقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} معطوف على نعمة، وجملة: {يعظكم به} حال ويجوز جعله مبتدأ؛ وجملة: {يعظكم} خبرًا، والكتاب: القرآن.
والحكمة: العلم المستفاد من الشريعة، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين، وأسرار الشريعة، كما قال تعالى، بعد أن بين حكم الخمر والميسر {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} [البقرة: 219، 220] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن كما ذكرنا، ومن الإيماء إلى العلل، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها.
والموعظة والوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ.
وقوله: {واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلًا لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن الله عليم، فإن العليم لا يخفى عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير. اهـ.