فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}.
انتقال إلى دلالة مظاهر العوالم العلوية على دقيق نظام الخالق فيها مما تؤذن به المشاهدة مع التبصر.
وابتدىء منها بنظام الليل والنهار لتكرر وقوعه أمام المشاهدة لكل راءٍ.
وجملة {نسلخ منه النهار} تحتمل جميع الوجوه التي ذكرناها في جملة {أحْيَيناهَا} [يس: 33] آنفًا.
والسلخ: إزالة الجلد عن حيوانه، وفعله يتعدّى إلى الجلد المزال بنفسه على المفعولية، ولذلك يقال للجلد المزال من جسم الحيوان: سِلخ بكسر السين وسكون اللام بمعنى مسلوخ، ولا يقال للجسم الذي أزيل جلده: سلخ.
ويتعدّى فعل سلَخ إلى الجسم الذي أزيل جلده بحرف الجر، والأكثر أنه من الابتدائية، ويتعدى بحرف عن أيضًا لما في السلخ من معنى المباعدة والمجاوزة بعد الاتصال.
فمفعول {نَسْلَخُ} هنا هو {النَّهَارَ} بلا ريب، وعدي السلخ إلى ضمير {اللَّيْلُ} ب {من} فصار المعنى: الليل آية لهم في حال إزالةِ غشاء نور النهار عنه فيبقى عليهم الليل، فشبه النهار بجلد الشاة ونحوها يغطي ما تحته منها كما يغطي النهار ظلمةَ الليل في الصباح.
وشبه كشف النهار وإزالته بسلخ الجلد عن نحو الشاة فصار الليل بمنزلة جسم الحيوان المسلوخ منه جلده، وليس الليل بمقصود بالتشبيه وإنما المقصود تشبيه زوال النهار عنه فاستتبع ذلك أن الليل يبقى شبه الجسم المسلوخ عنه جلده.
ووجه ذلك أن الظلمة هي الحالة السابقة للعوالم قبل خلق النور في الأجسام النيّرة لأن الظلمة عدم والنور وجود، وكانت الموجودات في ظلمة قبل أن يخلق الله الكواكب النيّرة ويُوصِل نورها إلى الأجسام التي تستقبلها كالأرض والقمر.
وإذا كانت الظلمة هي الحالة الأصلية للموجودات فليس يلزم أن تكون أصلية للأرض لأن الظاهر أن الأرض انفصلت عن الشمس نيرة وإنما ظلمة نصف الكرة الأرضية إذا غشيها نور الشمس معتبرة كالجسم الذي غشيه جلده فإذا أزيل النور عادت الظلمة فشبه ذلك بسلخ الجلد عن الحيوان كما قال تعالى في مقابله في سورة الرعد (3): {يغشي الليل النهار} فليس في الآية دليل على أن أصل أحوال العالم الأرضي هو الظلمة ولكنها ساقت للناس اعتبارًا ودلالة بحالةٍ مشاهدة لديهم ففرع عليه فإذا هم مُظلمونَ بناء على ما هو متعارف.
وقد اعتبر أئمة البلاغة الاستعارة في الآية أصلية تبعية ولم يجعلوها تمثيلية لما قدمناه من أن المقصود بالتشبيه هو حالة زوال نور النهار عن الأفق فتخلفها ظلمة الليل لقوله: {فَإذَا هُم مُظلمونَ}.
وإسناد {مُظْلِمُونَ} إلى الناس من إسناد إفعال الذي الهمزة فيه للدخول في الشيء مثل أصبح وأمسى.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}.
{الشمس} يجوز أن يكون معطوفًا على {اللَّيْلُ} من قوله: {وءايَةٌ لهم اللَّيْلُ} [يس: 37] عطفَ مفرد على مفرد ويقدر له خبر مماثل لخبر الليل، والتقدير: والشمس آية لهم، وتكون جملة {تَجْرِي} حالًا من {الشمس} مثل جملة {نَسْلَخُ منه النَّهَارَ} [يس: 37].
ويجوز أن يكون عطفَ جملة على جملة ويكون قوله: {تَجْرِي} خبرًا عن {الشمس}.
وأيَّاما كان فهو تفصيل لإِجمال جملة {وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار} [يس: 37] الخ كما دل عليه قوله الآتي: {ولا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وكان مقتضى الظاهر من كونه تفصيلًا أن لا يعطف فيقال: الشمسُ تجري لمستقر لها، فخولف مقتضى الظاهر لأن في هذا التفصيل آيةً خاصة وهي آية سير الشمس والقمر.
وقدم التنبيه على آية الليل والنهار لما ذكرناه هنالك؛ فكانت آية الشمس المذكورة هنا مرادًا بها دليل آخر على عظيم صنع الله تعالى وهو نظام الفصول.
وجملة {تَجْرِي لِمُسْتقر لها} يحتمل الوجوه التي ذكرناها في جملة {أحييناها} [يس: 33] من كونها حالًا أو بيانًا لجملة {وءَايَةٌ لهُم} [يس: 37] أو بدل اشتمال من {وءَايَةٌ}.
والجري حقيقته: السير السريع وهو لذوات الأرْجل، وأطلق مجازًا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقلًا سريعًا بالنسبة لتنقل أمثال ذلك الجسم، وغلب هذا الإِطلاق فساوى الحقيقة وأريد به السير في مسافات متباعدة جِدَّ التباعد فتقطعها في مدة قصيرة بالنسبة لتباعد الأرض حول الشمس.
وهذا استدلال بآثار ذلك السير المعروفةِ للناس معرفةً إجمالية بما يحسبون من الوقت وامتداد الليل والنهار وهي المعرفة لأهل المعرفة بمراقبة أحوالها من خاصة الناس وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج الاثني عشر، والمعروفةِ لأهل العلم بالهيئة تفصيلًا واستدلالًا وكل هؤلاء مخاطبون بالاعتبار بما بلغه علمهم.
والمستقر: مكان الاستقرار، أي القرار أو زمانه، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل: استجاب بمعنى أجاب.
واللام في {لِمُستَقَرٍ} يجوز أن تكون لام التعليل على ظاهرها، أي تجري لأجل أن تستقر، أي لأجل أن ينتهي جريها كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه، وهو متعلق ب {تجري} على أنه نهاية له لأن سير الشمس لما كانت نهايته انقطاعَه نُزّل الانقطاع عنه منزلة العلة كما يقال: لِدُوا للموت وابنوا للخراب.
وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكلام، ومنه قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8].
والمعنى: أنها تسير سيرًا دائبًا مشاهدًا إلى أن تبلغ الاحتجاب عن الأنظار.
ويجوز أن تكون اللام بمعنى إلى، أي تجري إلى مكان استقرارها وهو مكان الغروب، شبه غروبها عن الأبصار بالمستقَر والمأوَى الذي يأوي إليه المرء في آخر النهار بعد الأعمال.
وقد ورد تقريب ذلك في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي بروايات مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال: كنتُ مع رسول الله في المسجد عند غروب الشمس فسألته أو فقال: «إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرَّ ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعةً من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقرّ لها ومستقرها تحت العرش فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها}» وهذا تمثيل وتقريب لسير الشمس اليومي الذي يبتدىء بشروقها على بعض الكرة الأرضية وينتهي بغروبها على بعض الكرة الأرضية، في خطوط دقيقة، وبتكرر طلوعها وغروبها تتكون السنة الشمسية.
وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبر عنه بتحت العرش وهو سمت معيّن لا قبل للناس بمعرفته، وهو منتهى مسافة سيرها اليومي، وعنده ينقطع سيرها في إبان انقطاعه وذلك حين تطلع من مغربها، أي حين ينقطع سير الأرض حول شعاعها لأن حركة الأجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعًا لانقطاع حركتها هي وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي.
واللام في قوله: {لها} لام الاختصاص وهو صفة {لِمُسْتَقَر}.
وعُدل عن إضافة مستقر لضمير الشمس المغنية عن إظهار اللام إلى الإِتيان باللام ليتأتى تنكير مستقر تنكيرًا مشعرًا بتعظيم ذلك المستقر.
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا تمثيل لحال الغروب والشروق اليوميين.
وجعل سجود الشمس تمثيلًا لتسخرها لتسخير الله إياها كما جعل القول تمثيلًا له في آية {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11].
واعلم أن قوله: {لِمُستقر لها} إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس للناس لأن الناس لا يشعرون به فهو كقوله تعالى: {ليقضى أجل مسمى} [الأنعام: 60] عقب الامتنان بقوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم} [الأنعام: 60].
والإشارة ب {ذلك تقديرُ العَزِيزِ العلِيمِ} إلى المذكور: إما من قوله: {والشَّمْسُ تَجْرِي} أي ذلك الجري، وإما منه ومن قوله: {وءايَة لهم اللَّيْلُ} [يس: 37] أي ذلك المذكور من تعاقب الليل والنهار.
وذكر صفتي {العَزِيزِ العَلِيمِ} لمناسبة معناهما للتعلق بنظام سير الكواكب، فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم، والعلم يناسب النظام البديع الدقيق، وتقدم تفصيله عند قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا} في سورة الفرقان (61).
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروححِ عن يعقوب برفع {والقَمَرُ} فهو إما معطوف على {والشمس تجري} [يس: 38] عطفَ المفردات، وإما مبتدأ والعطف من عطف الجمل.
وجملة {قَدَّرْناهُ} إما حال وإما خبر.
وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلَفٌ بنصب {القمرَ} على الاشتغال فهو إذن من عطف الجمل.
وتقدّم تفسير منازل القمر عند قوله تعالى: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} في سورة يونس (5).
والتقدير: يطلق على جعل الأشياء بقدْر ونظام محكم، ويطلق على تحديد المقدار من شيء تطلب معرفة مقداره مثل تقدير الأوقات وتقدير الكميات من الموزونات والمعدودات، وكلا الإِطلاقين مراد هنا.
فإن الله قدّر للشمس والقمر نظامَ سيرهما وقدّر بذلك حساب الفصول السنوية والأشهر والأيام والليالي.
وعُدّي فعل {قَدَّرْناهُ} إلى ضمير {القمر} الذي هو عبارة عن ذاته وإنما التقدير لسيره ولكن عدي التقدير إلى اسم ذاته دون ذكر المضاف مبالغة في لزوم السَّير له من وقت خَلقه حتى كأنَّ تقدير سيره تقدير لذاته.
وانتصب {مَنَازِلَ} على الظرفية المكانية مثل: سرت أميالًا، أي قدرنا سيره في منازل ينتقل بسيره فيها منزلة بعد أخرى.
و{حتى} ابتدائية، أي ليست حرف جر فإن ما بعدها جملة.
ومعنى الغاية لا يفارق {حتى} فآذن ما فيها من معنى الغاية بمغيّا محذوف فالغاية تستلزم ابتداء شيء.
والتقدير: فابتدأ ضوؤه وأخذ في الازدياد ليلة قليلة ثم أخذ في التناقص حتى عاد، أي صار كالعرجون القديم، أي شبيهًا به.
وعبر عنه بهذا التشبيه إذ ليس لضوء القمر في أواخر لياليه اسم يعرف به بخلاف أول أجزاء ضوئه المسمّى هلالًا، ولأن هذا التشبيه يماثل حالة استهلاله كما يماثل حالة انتهائه.
و{عَادَ} بمعنى صار شكله للرائي كالعرجون.
والعرجون: العود الذي تخرجه النخلة فيكون الثمر في منتهاه وهو الذي يبقى متصلًا بالنخلة بعد قطع الكَبَاسَة منه وهي مجتمع أعواد التمر.
و{القديم} هو البالي لأنه إذا انقطع الثمر تَقوس واصفَارّ وتضاءل فأشبه صورة ما يواجه الأرض من ضوء القمر في آخر ليالي الشهر وفي أول ليلة منه، وتركيب {عَادَ كالعُرجُوننِ القَدِيمِ} صالح لصورة القمر في الليلة الأخيرة وهي التي يعقبها المحاق ولصورته في الليلة الأولى من الشهر هو الهلال.
وقد بُسط لهم بيان سير القمر ومنازله لأنهم كانوا يتقنون علمه بخلاف سير الشمس.
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}.
لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير وعلى صفات إلهيته التي من متعلِّقاتها تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها، والقمر وسيره، وقد سمّاها بعض المتكلمين صفات الأفعال وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلَّمة بعلامات نجومية تسمى بُروجًا بالنسبة لسير الشمس، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج، زادهم الله عبرة وتعليمًا بأن للشمس سيرًا لا يلاقي سير القمر، وللقمر سيرًا لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من مشاهدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد.
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربًا لحجم القمر.
فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى: {لا الشَّمْسُ يَنْبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَر} نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتِّيه، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طَلبه، يقال: بغاه فانبغَى له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبًا، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور.
يقال: لا ينبغي لك كذا، ففرقٌ ما بين قولك: ينبغي أن لا تفعل كذا، وبين قولك: لا ينبغي لك أن تفعل كذا، قال تعالى: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18] وتقدم قوله تعالى: {وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدًا} في سورة مريم (92)، ومنه قوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] في هذه السورة.