فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أتم سبحانه الدليل على آية {لقد حق القول على أكثرهم} بأن التكذيب بالأصلين التوحيد والحشر، وبينهما غاية البيان، رجع إلى تثبيت الأصل الثالث وهو أمر الرسول والتنزيل، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلم يزد فيه غريزة، ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء، أما المعاني الحسية فمطلقًا، وأما المعنوية فلا تزيد إلا بالتجربة والكسب، ولذلك قالوا:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ** فمطلبها كهلًا عليه شديد

وكان من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام تظهر عليهم غرائز العلوم والحكم وغير ذلك مما يجريه الله على أيديهم، ولا ينقص شيء من قواهم بل تزاد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي غير مكترث، وأن الصحابة رضى الله عنه م ليجهدون أنفسهم، فيكون جهدهم أن يدركوا مشية الهوينا، وأنه صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقًا من نفسه بأنه يصرع من صارعه، فلم يملكه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وعاد إلى ذلك ثلاث مرات، كل ذلك لا يستمسك في يده حتى شرع يقول: أن هذا لعجب يا محمد! أتصرعني، وحتى أنه دار على نسائه- وهن تسع- كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس، ولم يحك عن نبي من الأنبياء ممن عاش منهم ألفًا ومن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه، بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة رضى الله عنه: «أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صكه ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت، قال فالآن» وفي آخر التوراة: وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب، فدفن حذاء بيت فاغورا، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا، وكان موسى يوم قضي ابن مائة وعشرين سنة، لم يضعف سني الوقوف في الغرائز والضعف في القوى خرقًا للعادة إكرامًا لهم وتنبيهًا للناس على صدقهم، علم من العطف على غير معطوف عليه ظاهر ومن الإتيان بضميره صلى الله عليه وسلم من غير تقدم ذكر له أن التقدير: لكن نبينا صلى الله عليه وسلم عمرناه وما نكسناه بل منحناه غرائز من الفضائل عجز عنها الأولون والآخرون، فأتى بقرآن أعجز الإنس والجن، وعلوم وبركات فاتت القوى، ومعلوم قطعًا أن الذي أتى به ليس بشعر خلافًا لما رموه به بغيًا وعدوانًا، وكذبًا على جنابه وافتراء وتجاوزًا في البهت وطغيانًا، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعًا ولم يقل بيت شعر مع ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة، وبه من المكاثرة، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعًا أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها: {وما علمناه} أي نحن {الشعر} فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفًا إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات {وما أنا من المتكلفين} [ص: 86] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخرًا لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإتيان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه، وهي أنه لابد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام، فلا تكلف عنده أصلًا، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا أو قطيعة رحم، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله:
متى ما يرى الناس الغني وجاره ** فقير يقولوا عاجز وجليد

وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ** ولكن أحاظ قسمت وجدود

إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ** فمطلبها كهلًا عليه شديد

وكائن رأينا من غنى مذمم ** وصعلوك قوم مات وهو حميد

والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه، بدليل أنا كثيرًا ما رأينا من فاته الغنى شابًا جلدًا وناله شيخًا ضعيفًا، وما رأينا من أخطأته المروءة شابًا نالها شيخًا، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة، والمروءة هي الإنسانية، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة، وهذا هو السيادة، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنيًا كان أو فقيرًا، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال، فلله درهم! ما كان أحكمهم وأدراهم بالدقائق وأعلمهم، ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم، فملأت معارفه الأكوان، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}.
في الترتيب وجوه الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: {بِمَا كنتم تَكْفُرُونِ} [يس: 64] يريدون أن ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم الثاني: لما قال الله تعالى لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان، وفي الختم على الأفواه وجوه: أقواها، أن الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فكما جاز تحركه بها جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على الممكنات والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليئوس لا يجد عذرًا فيعتذر ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار، كما يقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار، إشارة إلى ظهور الحزن، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية:
فالأولى منها: هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال: {نَخْتِمُ} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، لأنه لو قال تعالى: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرًا وقهرًا والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى: {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
الثانية: منها هي أن الله تعالى قال: {تُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى: {وَمَا عَمِلتَهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] أي ما عملوه وقال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها، وأما المعنوية فالأولى: منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم، لا يقال الأيدي والأرجل أيضًا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها، لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها، لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور، لابد من أن يكون مذنبًا في الدنيا، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا، وهذا كمن قال لفاسق: إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر، فقال الفاسق: كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد، لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم، فوجد الشرط أيضًا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه.
المسألة الثانية:
الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم، كما قال تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} [التوبة: 30] فلما ختم على أفواههم أيضًا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم، لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)}.
قد ذكرنا مرارًا أن الصراط المستقيم هو بين الجبر والقدر وهو الطريقة الوسطى، والله تعالى في كل موضع ذكر ما يتمسك به المجبرة ذكر عقيبه ما يتمسك به القدرية وبالعكس، وههنا كذلك لما قال الله تعالى: {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يس: 65] وقال: {اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 64] وكان ذلك متمسك القدرية حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم وأحال الخير والشر عليهم، ذكر عقيبه ما يدل على أن كفرهم وكسبهم بمشيئة الله، وذلك لأن الكفر يعمي البصيرة ويضعف القوة العقلية، وعمى البصيرة بإرادة الله ومشيئته، إذا شاء أعمى البصائر، كما أنه لو شاء لطمس على أعينهم المبصرة، وسلب القوة العقلية باختياره ومشيئته، كما أن سلب القوة الجسمية بمشيئته، حتى لو شاء لمسخ المكلف على مكانته وأقامه بحيث لا يتحرك يمنة ولا يسرة، ولا يقدر على المضي والرجوع، فإعماء البصائر عنده كإعماء الأبصار، وسلب القوة العقلية كسلب القوة الجسمية، فقال: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا، وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة، وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا، وأنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر.
وفي الآيتين أبحاث لفظية:
البحث الأول: في قوله: {فاستبقوا الصراط} قال الزمخشري فيه وجوه الأول: أنه يكون فيه حذف حرف إلى واتصال الفعل من غير حرف وأصله فاستبقوا إلى الصراط الثاني: أن يكون المراد من الاستباق الابتدار فأعمله أعمال الابتدار الثالث: أن يجعل الصراط مستبقًا لا مستبقًا إليه، يقال استبقنا فسبقتهم وحينئذٍ يكون مبالغة في الاهتداء إلى الطريق، كأنه يقول الصراط الذي هو معهم ليسوا طالبين له قاصدين إياه، وإنما هم عليه إذا طمس الله على أعينهم لا يبصرونه، فكيف إن لم يكونوا على الصراط.
البحث الثاني: قدم الطمس والإعماء على المسخ والإعجاز ليكون الكلام مدرجًا، كأنه قال: إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه وحينئذ لا يهتدون إليه، فإن قال قائل: الأعمى قد يهتدي إلى الطريق بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر كالأصوات والمشي بحس اللمس، فارتقى وقال: فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه.
البحث الثالث: قدم المضي على الرجوع، لأن الرجوع أهون من المضي، لأن المضي لا ينبيء عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبيء عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رؤي مرة أهون من سلوك طريق لم ير فقال: لا يستطيعون مضيًا ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}.
فقد ذكرنا أن قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] قطع للأعذار بسبق الإنذار، ثم لما قرر ذلك وأتمه شرع في قطع عذر آخر، وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرًا، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرًا، فقال الله تعالى: أفلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرناكم مقدار ما تتمكنون من البحث والإدراك، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر عليكم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تُجِرني من الظُّلْم قال يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلاّ شاهدًا منّي قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال ثم يخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بعدًا لكنّ وسُحقًا فعنكنّ كنت أناضِل» خرجه أيضًا من حديث أبي هريرة.
وفيه: «ثم يقال له الآن نبعث شاهدَنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليُعذِر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه» وخرج الترمذي عن معاوية بن حَيْدَة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: وأشاره بيده إلى الشام فقال «من هاهنا إلى هاهنا تحشرون ركبانًا ومشاة وتجرّون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدَام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرِب عن أحدكم فخذه» في رواية أخرى «فخذه وكفّه» الفِدام مصْفاة الكوز والإبريق؛ قاله الليث.
قال أبو عبيد: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفِدام الذي يجعل على الإبريق.
ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها لأنهم قالوا {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم؛ قاله أبو موسى الأشعري.
الثاني ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم؛ قاله ابن زياد.
الثالث لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق؛ لخروجه مخرج الإعجاز، وإن كان يومًا لا يحتاج إلى إعجاز.
الرابع ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانًا في حق نفسه صارت عليه شهودًا في حق ربه.
فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فجعل ما كان من اليد كلامًا، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرِة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل بالشهادة.
وقد روي عن عُقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فَخِذه من الرِّجل اليسرى» ذكره الماوردي والمهدوي.
وقال أبو موسى الأشعري: إني لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى؛ ذكره المهدوي أيضًا.