فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها.
قال: وتقدمت اليسرى؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها؛ فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها.
قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معًا والكفّ؛ فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة.
والله أعلم.
قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ} حكى الكسائي: طَمَس يَطمِس ويَطمُس.
والمطموس والطَّمِيس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شقّ.
قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدًا إلى طريق الحق.
وقال الحسن والسّدي: المعنى لتركناهم عميًا يترددون.
فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقًا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها.
وهذا اختيار الطبري.
وقوله: {فاستبقوا الصراط} أي استبقوا الطريق ليجوزوا {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي فمن أين يبصرون.
وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غَيِّهم، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى؛ فاهتدوا وأبصروا رشدَهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة.
ثم قال: {فأنى يُبْصِرُونَ} ولم نفعل ذلك بهم؛ أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية.
وقد روي عن عبد الله بن سلاَم في تأويل هذه الآية غير ما تقدّم، وتأولها على أنها في يوم القيامة.
وقال: إذا كان يوم القيامة ومُدَّ الصراط، نادى منادٍ ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فيقومون بَرُّهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فُجَّارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه.
ثم ينادي منادٍ ليقم عيسى صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فيقوم فيتبعونه برّهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام.
ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه.
وذكره القشيري.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرًا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه.
والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شَقّ، مأخوذ من طَمَس الريحُ الأثَر؛ قاله الأخفش والقتبي.
قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ فَمَا استطاعوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ} المسخ: تبديل الخِلقة وقلبها حجرًا أو جمادًا أو بهيمة.
قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم.
وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر.
وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعًا تقصده فتتحير، فلا تقبِل ولا تُدبِر.
ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم.
وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية.
ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط.
وقرأ الحسن والسُّلَمي وزِرُّ بن حُبَيش وعاصم في رواية أبي بكر: {مَكَانَاتهِمْ} على الجمع، الباقون بالتوحيد.
وقرأ أبو حَيْوَة: {فَمَا استطاعوا مَضِيًّا} بفتح الميم.
والمضي بضم الميم مصدر يَمضي مُضيًّا إذا ذهب.
قوله تعالى: {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} قرأ عاصم وحمزة {نُنَكِّسْه} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس.
الباقون {نَنْكُسْه} بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكستُ الشيءَ أَنْكسُه نَكْسًا قلبته على رأسه فانتكس.
قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا.
وقال سفيان في قوله تعالى: {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه وضعفت قوّته.
قال الشاعر:
من عاش أخلقتِ الأيامُ جِدّتَهُ ** وخانه ثِقَتَاه السَّمْع والبصرُ

فطول العمر يصيِّر الشباب هَرَما، والقوّة ضعفًا، والزيادة نقصًا، وهذا هو الغالب.
وقد تعوّذ صلى الله عليه وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر.
وقد مضى في النحل بيانه.
{أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أنّ من فعل هذا بكم قادر على بعثكم.
وقرأ نافع وابن ذكوان: {تَعقِلون} بالتاء، الباقون بالياء. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} أي ختمًا يمنعُها عن الكلامِ. التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب، وقد انفقطع بالكُلَّيةِ، وقُرئ {تَختم} .
{وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم. وفي الحديث: «يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهدًا إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعدًا لكنَّ وسُحقًا فعنكنَّ كنتُ أناضلُ» وقيل: تكليمُ الأركانِ وشهادتُها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها. وقُرئ {وتتكلَّمُ أيديهم} وقُرئ {ولتكلَّمَنا أيديهم وتشهد} بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقُرئ {ولتكلِّمْنا أيديهم لتشهدْ } بلام الأمرِ والجزمِ {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً. ومفعول المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطًا وكون مفعولها مضمون الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه. وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المُضيِّ لإفادة أنَّ عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة، فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقع موقع الماضي ليس بنصَ في إفادة انتفاء استمرارِ انتقائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} {فاستبقوا الصراط} أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه. على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ {فأنى يُبْصِرُونَ} الطَّريقَ وجهة السلوك.
{وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم {على مكانتهم} أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمَقامِ. وقُرئ {على مكانتهم} أي لمسخناهم مسخًا يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى: {فَمَا استطاعوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ} أي ولا رجوعًا فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عبَّاسَ رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ، وقيل: حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم. وقُرئ {مِضيّا} بكسر الميمِ وفتحها. وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكُفر ونقص العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ أمثالِهم أحقَّاءُ بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ كأنَّه قيل: لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جريًا على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جريًا على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم {وَمَن نّعَمّرْهُ} أي نُطل عمره {نُنَكّسْهُ في الخلق} أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلًا، فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ. وقُرئ {نَنكُسْه} من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ ونُنْكِسه من الإنكاسِ.
{أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أي أيرَون ذلك فلا يعقلون أنَّ مَن قَدَر على ذلك يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مشيئته تعالى بهما. وقرئ {تعقلون} بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه. اهـ.

.قال الألوسي:

{اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} كناية عن منعهم من التكلم، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة.
وجوز أن يكون الختم مستعارًا لمعنى المنع بأن يشبه إحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعًا شبيهًا بالختم، والأول أولى في نظري {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول إنهم فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك.
ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] وقوله سبحانه: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] وقوله عز وجل: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} [الروم: 41] وقوله جل وعلا: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [السورى: 30] إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن.
وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: 24] بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضًا في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص هاهنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون.
ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحدًا بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولًا ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم إما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى: {حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} [فصلت: 25] ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجىء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 63، 64] فيكون ذلك عند المجىء إلى النار أيضًا، قال في إرشاد العقل السليم: إن قوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ} الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية، لكن قال في موضع آخر: إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والأخبار ظاهرة في ذلك.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري من حديث «يدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم على فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية» وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا «إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي فل ألم أكرمك إلى أن قال صلى الله عليه وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثنى بخير ما استطاع فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد على فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله».
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهدًا منه فيختم على فيه، أخرج أحمد ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال: «أتدرون مم ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: إني لا أجيز على ألا شاهدًا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل» والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر.