فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا قول بيّن.
قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتفاق.
ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر.
فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئًا منها، وما قوله بشعر.
وقال أنيس أخو أبي ذرّ: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر.
أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب.
وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه: والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر؛ على ما يأتي بيانه من خبره في سورة فصلت إن شاء الله تعالى.
وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللُّسْن البلغاء.
ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعدّ شعرًا، وإنما يعدّ منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه؛ فقد يقول القائل: حدّثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي، ولا يعدّ هذا شعرًا.
وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عُرض العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى.
الثالثة: روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال: لا تكثرن منه؛ فمن عيبه أن الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن اجمع الشعراء قِبلك؛ وسَلْهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة؛ وأحضر لَبِيدًا ذلك؛ قال: فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله.
وسأل لبيدًا فقال: ما قلت شعرًا منذ سمعت الله عز وجل يقول: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1- 2] قال ابن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر؛ كما لم يكن قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] من عيب الكتابة، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر.
روي أن المأمون قال لأبي عليّ المِنْقري: بلغني أنك أميّ، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن.
فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقيم الشعر.
فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعًا وهو الجهل، يا جاهل! إن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة.
وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفي الظنة عنه، لا لعيب في الشعر والكتابة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي وما ينبغِي له أن يقوله.
وجعل الله جل وعز ذلك علَمًا من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه؛ فيظن أنه قوِي على القرآن بما في طبعه من القوّة على الشعر.
ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول؛ لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر ليس بشعر؛ ولو كان شعرًا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرًا؛ على ما تقدم بيانه.
وقال الزجاج: معنى {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ما يتسهل له قول الشعر لا الإنشاء.
{إِنْ هُوَ} أي هذا الذي يتلوه عليكم {إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}.
قوله تعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} أي حيّ القلب؛ قاله قتادة.
الضحاك: عاقلًا.
وقيل: المعنى لتنذر من كان مؤمنًا في علم الله.
هذا على قراءة التاء خطابًا للنبي عليه السلام، وهي قراءة نافع وابن عامر.
وقرأ الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز وجل؛ أو لينذر محمد صلى الله عليه وسلم، أو لينذر القرآن.
وروي عن ابن السَّمَيْقَع {لِيَنْذَر} بفتح الياء والذال.
{وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} هذه رؤية القلب؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا.
{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة.
و ما بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم.
وإن جعلت ما مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء.
{أَنْعامًا} جمع نعم والنعم مذكر.
{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون.
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرّفه كيف شاء لا يخرج من طاعته.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} قراءة العامة بفتح الراء؛ أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حَلوب أي محلوب.
وقرأ الأعمش والحسن وابن السَّمَيْقَع: {فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ} بضم الراء على المصدر.
وروي عن عائشة أنها قرأت: {فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ} وكذا في مصحفها.
والرَّكوب والرَّكوبة واحد، مثل الحَلوب والحَلوبة، والحمَول والحمَولة.
وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صَبور وشَكور بغير هاء.
ويقولون: شاة حَلوبة وناقة رَكوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعًا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلًا وأثبتوها فيما كان مفعولًا؛ كما قال:
فيها اثنتان وأربعون حَلُوبَةً ** سُودًا كخافيةِ الغرابِ الأَسْحَمِ

فيجب أن يكون على هذا رَكوبتهم.
فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب.
والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والرَّكُوب لا يكون إلا للجماعة.
فعلى هذا يكون لتذكير الجمع.
وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز {فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ} بضم الراء لأنه مصدر؛ والرَّكُوب ما يركب.
وأجاز الفرّاء {فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ} بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم.
{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} من لحومها {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك.
{وَمَشَارِبُ} يعني ألبانها؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد.
{أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} الله على نعمه.
قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً} أي قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل.
{لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب.
ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يعني الآلهة.
وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين.
{وَهُمْ} يعني الكفار {لَهُمْ} أي للآلهة، {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم.
وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا.
وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم.
وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى.
وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض.
وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرءون من عبادتهم.
وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم.
وفي الخبر: إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار؛ فهم لهم جند محضرون.
قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يَطَّلِع عليهم ربُّ العالمين فيقولُ أَلاَ لِيتبعْ كلُّ إنسانٍ ما كان يعبد فيُمثَّل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون» وذكر الحديث بطوله.
{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} هذه اللغة الفصيحة.
ومن العرب من يقول يُحزِنك.
والمراد تسلية نبيه عليه السلام؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر.
وتم الكلام، ثم استأنف فقال: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا علمناه الشعر}.
ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ، ومن أين اشتَبه عليهم الشئون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميًَّا لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ. وأما قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام:
«أنا النبيُّ لا كذب ** أنا ابنُ عبد المطَّلب»
وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
«هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ ** وفي سبيل الله ما لقيتِ»
فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها. وقيل: الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعرًا {إِنْ هُوَ} أي ما للقُرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} أي عظةٌ من الله عزَّ وجلَّ وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} {وَقُرْآنٌ مُّبِين} أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٌ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا.
{لّيُنذِرَ} أي القُرآنُ أو الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام ويُؤيِّده القراءةُ بالتَّاءِ، وقرئ {لينذر} من نذر به أي علمه، وليُنذرَ مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ.
{مَن كَانَ حَيًّا} أي عاقِلًا متأمِّلًا، فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ، أو مؤمنًا في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ، وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به {وَيَحِقَّ القول} أي تجبُ كلمةُ العذابِ {عَلَى الكافرين} المصرِّين على الكفرِ، وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيًّا إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكار والتَّعجيبِ. والواو للعطفِ على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علمًا يقينيًّا مُتاخِمًا للمُعاينةِ.
{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي لأجلِهم وانتفاعِهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ. وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به.
{أنعاما} مفعولُ خلقنَا. وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مرارًا من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقدِيمُ إذا أُخِّر تبقى النَّفسُ مترقبةَ له فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لاسيما عند كونِ المقدَّصصمِ منبئًا عن كونِ المؤخَّر أمرًا نافعًا خطيرًا كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم، والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقًا إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعًا بينه وبين أحكامِه المتفرِّعةِ عليه يقوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مالكون} الآياتِ الثلاثَ أي مَلّكناها إيَّاهمُ. وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها. والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكِنا إيصِّاهم لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يُزاحمهم في ذلك عيرُهم أو قادرون على ضبطها متمكِّنون من التَّصرُّفِ فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال:
أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا ** أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نَقَرا

والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى: {وذللناها لَهُمْ} تأسيسًا لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصِي عليهم في شيءٍ مَّما يُريدون بها حتَّى الذَّبح حسبما ينطقُ به قوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ، وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الرُّكوبِ. وقُرئ {ركوبتُهم} وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل: الرَّكوبةُ اسم جمع. وقُرئ {رُكوبُهم} أي ذُو رُكوبِهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه.
{وَلَهُمْ فِيهَا} أي في الأنعامِ بكِلا قسميها {منافع} أُخرُ غيرُ الرُّكوبِ والأكلِ كالجلودِ والأصوافِ والأوبارِ وغيرِها وكالحِراثةِ بالثِّيران {ومشارب} من اللَّبنِ جمع مَشربٍ وهذا مجمل ما فُصِّل في سورة النَّحلِ {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي أيُشاهدون هذه النِّعمَ أو أيتنعَّمون بها فلا يشكرونَ المنعمَ بها.
{واتخذوا مِن دُونِ الله} أي متجاوزينَ الله تعالى الذي شاهدُوا تفرُّدَه بتلك القدرةِ الباهرةِ وتفضُّله عليهم بهاتيك النِّعمِ المتظاهرةِ {ءالِهَةً} من الأصنام وأشركوهَا به تعالى في العبادة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاءَ أنْ يُنصروا من جهتِهم فيما حزبَهم من الأمورِ أو يشفعُوا لهم في الآخرةِ وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} الخ استئنافٌ سيق لبيانُ بُطلانِ رأيهم وخيبةِ رجائِهم وانعكاسِ تدبيرِهم أي لا تقدرُ آلهتُهم على نصرِهم {وَهُمْ} أي المشركون {لَهُمْ} أي لآلِهتهم {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} يشيِّعونهم عند مساقِهم إلى النَّارِ، وقيل: مُعَدُّون في الدُّنيا لحفظِهم وخدمتِهم والذبِّ عنهم، ولا يساعده مساقُ النَّظمِ الكريم فإنَّ الفاء في قوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} لترتيب النَّهيِ على ما قبله فلابد أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمرِ عليهم بترتب الشَّرِّ على ما رتَّبوه لرجاءِ الخبر فإن ذلك مما يُهوِّن الخطبَ ويورث السَّلوةَ، وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإنْ كان بحسبِ الظَّاهرِ متوجِّهًا إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجّهٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن النَّأثرِ منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النَّهيَ عن أسبابِ الشَّيءِ ومبادئهِ المؤدَّيةِ إليه نهيٌ عنه بالطَّريقِ البُرهانِّي وإبطالٍ للسَّببيةِ وقد يُوجَّه النَّهيُ إلى المسبَّبِ ويراد النَّهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هاهنا يريد به نهيَ مخاطبه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولِهم ما ينبىءُ عنه ما ذُكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ.
وقُرئ {يُحزِنك} بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزنَ اللازمِ وقوله تعالى: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعًا أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافيةِ والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شيءٌ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتقديمِ السرِّ على العَلَنِ إمَّا للمبالغةِ في بيان شمولِ علمهِ تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمه تعالى بما يسرُّونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالى بمعلوماتهِ ليس بطريقِ حصولِ صورها بل وجود كلِّ شيءٍ في نفسِه علم بالنِّسبةِ إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العَلَنِ إذ ما من شيءٍ يعلن إلا وهو أو مباديه مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدِّم على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة. اهـ.