فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

قوله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتأويل قوله: {إيَّاكَ نعبُدُ} لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف- وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة- لأنّ العبودية، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا. ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت ** وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ

يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء. ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك- من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها- لا أحدًا سواك، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته؟ أوَ جائز، وقد أمرهم بطاعته، أن لا يعينهم عليها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك مُعان، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه؟
قيل: إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره.
وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك- مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته، وافترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضّل به عليه، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق- مع اشتغال عبده بمعصيته، وانصرافه عن مَحبته، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته، ومسارعته إلى طاعته- فساد في تدبير، ولا جَور في حكم، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته.
وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ، أو يكلّفه فرضَ عمل، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان- على قولهم، مع وجود الأمر والنهي والتكليف- حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك. بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَور. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا، لكان القائل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا- على تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك، وتخطئَتِهم قول القائل: اللهم لا تَجُرْ علينا دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم: اللهم إنّا نستعينك اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْر منك.
فإن قال قائل: وكيف قيل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها.
قيل: لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه. كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ.
قال أبو جعفر: وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ، كما قال امرؤ القيس:
ولَوْ أَنّ مَا أسْعَى لأَدْنَى مَعِيشةٍ ** كَفاني، ولم أطلُبْ، قليل من المالِ

يريد بذلك: كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك- من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس- بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وُجُودها، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال: فما وجْه تكراره: {إياك} مع قوله: {نستعين} وقد تقدَّم ذلك قَبْل {نعبد}؟ وهلا قيل: {إياك نعبُدُ ونستعين} إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ؟
قيل له: إن الكاف التي مع إيَّا، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل- أعني بقوله: {نعبد} لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل، فكُثِّرت بإيّا متقدِّمةً، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمّا كانت الكاف من {إياكَ} هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به، فيقال: «اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك»، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال: «اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد»- كان كذلك، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بإيّا، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا.
وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ أنّ إعادة {إياك} مع {نستعين} بعد تقدّمها في قوله: {إياك نستعين} بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ:
وجَاعِل الشَّمس مِصْرًا لا خَفَاءَ بِه ** بَيْن النَّهارِ وَبيْنَ اللَّيل قد فَصَلا

وكقول أعشى هَمْدان:
بَيْنَ الأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ باذخ ** بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وللمَولُودِ

وذلك من قائله جهل، من أجل أن حظ {إيّاك} أن تكون مكررة مع كل فعل، لما وصفنا آنفًا من العلة، وليس ذلك حُكم بين لأنها لا تكون- إذ اقتضت اثنين- إلا تكريرًا إذا أعيدت، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين، في حال اقتضائها اثنين، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال: الشمس قد فَصَلت بين النهار، لكان من الكلام خَلْفًا لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه، من تمامه الذي يقتضيه بين.
ولو قال قائل: اللهمّ إياك نعبد، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ كانت نظيرةَ {إياك نعبد} إلى {إياك} كحاجة {نُعْبد} إليها وأنّ الصواب أن تكونَ معها {إياك} إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم بين فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله. اهـ.. بتصرف يسير.

.فائدة: تكرار {إياك}:

.قال بيان الحق الغزنوي:

وإنما كرر {إياك} لأنه بمعنى الكاف في نعبدك ونستعينك، ولأنه تعليم أن يجدد لكل دعوة عزيمة وتوجها، ولا نجمعهما في رباقة ولا نعرضهما في صفقة، وإنما لم يقل: نعبدك ونستعينك وهو أوجز؛ لأن نستعين على نظم آى السورة، ولهذا قدمت العبادة على الاستعانة، كما قدم الرحمن وهو أبلغ، مع ما تقديم ضمير المعبود على ذكر العابد من التعظيم وإحسان الترتيب، وإنما كان {إياك نعبد} بلفظ الخطاب و{الحمد لله} في أول السورة بالغيبة؛ لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده فاستعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة، والعبادة التي هي الأمر الأقصى جرت بالخطاب تقريبا منه تعالى بالانتهاء إلى محدودة منها، وعلى هذا جاء آخر السورة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بإسناد النعمة إليه لفظا، وصرف لفظ الغضب إلى: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} تحسنا وتلطفا. اهـ.

.قال البيضاوي:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانًا والمعقول مشاهدًا والغيبة حضورًا، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانًا ويناجيه شفاهًا.
اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {إياك نعبد}.
نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتمامًا، وشأن العرب تقديم الأهم.
ويذكر أن أعرابيًا سبّ آخر فأعرضَ المسبوبُ عنهُ، فقال له السابُّ: إياك أعني فقال الآخر: وعنكَ أُعرِضُ فقدَّما الأهم.
وقرأ الفضل الرقاشي: {أياك} بفتح الهمزة، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد: {إيَاك} بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها، وهذا كتخفيف ربْ وإنْ وقرأ أبو السوار الغنوي: {هيّاك نعبد وهيّاك نستعين} بالهاء، وهي لغة. واختلف النحويون في: {إيّاك} فقال الخليل: إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب.
وقال المبرد: إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ: {إيّاك} بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل إيّا عمادًا لها. فيقال إياك وإياه وإيّاي، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن إيا.
وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيدًا ما فعل.
و{نعبد} معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير.
وقال طرفة: الطويل:
تباري عتاق الناجيات وأتبعت ** وظيفًا وظيفًا فوق مور معبد

وتكررت: {إياك} بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام.
و{نستعين} معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام. وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي: و: {نستعين} بكسر النون، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحوعلم وشرب، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال وأخال. اهـ.