فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علمًا يقينيًا مشابهًا للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [يس: 31] الخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي لأجلهم وانتفاعهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقًا ولا كسبًا.
والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازًا متفرعًا على الكناية، وقال بعضهم: المراد بالعمل الإحداث وبالأيدي القدرة مجازًا، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيمًا لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عز وجل في عامل الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم، ولا يخفى ما فيه.
ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عز وجل.
وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت ك {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] أو ثنيت ك {خلقت بيدي} [ص: 75] أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عز وجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [الشورى: 11] وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة {أنعاما} مفعول {خَلَقْنَا} وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقًا إلى المؤخر وجمعًا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه، والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع القطرة وكثرة المنافع، وهذا كقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] {فَهُمْ لَهَا مالكون} أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعامًا وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء.
وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجيب إذا أجدت عجنه، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسًا لا تأكيدًا، وأيًا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها.
{وذللناها لَهُمْ} أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس.
وقرأ أبي وعائشة {ركوبتهم} بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة، وقيل جمع ركوب، وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها.
وقرأ الحسن والأعمش وأبو البرهسم {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فإما أن يئول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند أي فمن منافعها ركوبهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعض منها يأكلون لحمه، والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها، وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل، وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة.
{وَلَهُمْ فِيهَا} أي في الأنعام بكلا قسميها {منافع} جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن، وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به، وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها، وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع، وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب.
قال الإمام: وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها، وقال الخفاجي: إذا كان موضعًا فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه: {فِيهَا} فإنها مقرة، ولعله أظهر من قول الإمام {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة.
{واتخذوا مِن دُونِ الله} أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها {ءالِهَةً} من الأصنام وأشركوها به عز وجل في العبادة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ}. إلخ.
استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم، وقول ابن عطية، يحتمل أن يكون ضمير {يَسْتَطِيعُونَ} للمشركين وضمير {نَصَرَهُمُ} للأصنام ليس بشيء أصلًا {وَهُمْ} أي أولئك المتخذون المشركون {لَهُمْ} أي لآلهتهم {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا.
أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن الحسن وقتادة، وقيل: المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة، وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن، واختار بعض الأجلة أن المعنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جندًا من باب التهكم والاستهزاء.
وكذلك لام لهم الدالة على النفع، وقيل {هُمْ} للآلهة وضمير {لَهُمْ} للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارًا لعجزهم وإقناطًا للمشركين عن شفاعتهم وجعلهم جندًا، والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفًا، واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور، والواو في قوله سبحانه: {وَهُمْ} الخ على جميع ما مر إما عاطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى.
والفاء في قوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عز وجل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عز وجل وشأنك، والاقتصار في بيان قولهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى: {وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ} [يس: 69] وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال، وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولًا هو المناسب لما روي عن الحسن وقتادة في معنى قوله تعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} [يس: 75] وبما ذكرنا ثانيًا هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك، وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عز وجل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى، وأيًا ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجهًا إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى.
وقرأ نافع {فَلاَ يَحْزُنكَ} بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناءً على التقدير الثاني في الشرط فإنّ العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الانتقام منه مقتض لمجازاته والانتقام منه، وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فماذا تصنع بهم؟ فقيل: {إِنَّا نَعْلَمُ} الخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم، وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل، وما موصلة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها، وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم إسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى.
وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث أن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن، وقيل: لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة، وقيل: للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان، وشاع أن الوقف على {قَوْلُهُمْ} متعين، وقيل: ليس به لأنه جوز في {إِنَّا نَعْلَمُ} الخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] أو على أن المراد فلا يحزنك قولهم على سبيل السخرية والاستهزاء إنا نعلم الخ، ومنه يعلم أنه لو قرأ قارىء أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلًا من {قَوْلُهُمْ} لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلًا على حذف حرف التعليل، والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر، وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه أنه على قولهم كالمتعين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ}.
هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} [يس: 46] فقد بيّنا أن المراد بالآيات آيات القرآن، فإعراضهم عن القرآن له أحوالٌ شتى: بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} [يس: 47] الآية، وبعضها بالتكذيب لما يُنذِرهم به من الجزاء، وهو قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48].
ومن إعراضهم عنه طعنُهم في آيات القرآن بأقوال شتّى منها قولهم: هو قول شاعر، فلما تصدّى القرآن لإِبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم: {بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء: 5]، فقولهم {بل هو شاعر} يقتضي لا محالة أنهم يقولون: القرآن شعر.
فالجملة معطوفة على جملة {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38]، عطف القصة على القصة والغرضضِ على الغرضضِ.
ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا ويكون الواو للاستئناف، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعرًا والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرًا دون التعرض لتنزيهه عن أن يكون ساحرًا، أو أن يكون مجنونًا لأن الغَرض الرد على إعراضهم عن القرآن، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى: {وما هو بقول شاعر قليلًا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلًا ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42].
وضمير {عَلَّمْناهُ} عائد إلى معلوم من مقام الردّ وليس عائدًا إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد.
وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلَّم للنبيء صلى الله عليه وسلم من قِبَل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر.
وانتصب {الشّعْرَ} على أن مفعول ثانٍ لفعل {عَلَّمْناهُ} وهذا الفعل من أفعال العلم، ومُجرَّدُه يتعدّى إلى مفعول واحد غالبًا نحو عَلِم المسألةَ.
ويتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فإذا دخله التضعيف صار متعديًا إلى مفعولين فقط اعتدادًا بأن مجرده متعدّ إلى واحد كقوله تعالى: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة} [المائدة: 110] في سورة العقود، وقوله: {وما علَّمناهُ الشعر} في هذه السورة يس وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختيار أهل اللسان نبّه عليه الرضيّ في شرح الكافية في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعدّ إلى واحد.
فتقدير المعنى: نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحىً إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى: أن القرآن ليس من الشعر في شيء، فكانت هاته الجملة ردًّا على قولهم: هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.
ودل على أن هذا هو المقصود من قوله: {وما علمناهُ الشعر} قوله عقبه {إن هُوَ إلاَّ ذِكرٌ وقُرءانٌ مبين} أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكرًا وقرآنًا وما هو بشعر.
والتعليم هنا بمعنى الوحي، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} [النجم: 4، 5] وقال: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
وكيف يكون القرآن شعرًا والشعر كلام موزون مقفّى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة، فأين الوزن في القرآن، وأين التقفية، وأين المعاني التي ينتجها الشعراء، وأين نظم كلامهم من نظمه، وأساليبهم من أساليبه.
ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول مثل هذا ولا شبهة لهم فيه بحال، فما قولهم ذلك إلا بهتان.
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم وكل من زاول مبادىء القافية من المولدين، ولا أحسبهم دَعوهُ شعرًا إلا تعجلًا في الإِبطال، أو تمويهًا على الإِغفال، فأشاعوا في العرب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شاعر، وأن كلامه شعر.
وينبَني عن هذا الظن خبر أنيس بن جُنَادة الغفاري أخي أبي ذرّ، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله بن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلقَ الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلامًا ما هو بالشعر.
قال أبو ذر: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر كاهن، ساحر.
وكان أُنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق أنه جمع قريشًا عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن وفود العَرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأيًا لا يُكذب بعضكم بعضًا، فقالوا: نقول كاهن؟ فقال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون؟ فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزَه وهزجَه وقريضه ومبسوطَه ومقبوضه وما هو بشاعر. إلى آخر القصة.
فمعنى {وما علمناه الشعر} وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبي القدرة على نظم الشعر لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليما حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده {وما ينبغي له} وسنتكلم عليه قريبا.
وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين وإذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية بعضها يلتئم منه بيت كامل وبعضها يتقوم منه مصراع واحد ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر في آي القرآن.
صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام وقد أثار الملاحدة هذا المطعن فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه إعجاز القرآن وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه: إن البيت المفرد لا يسمى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت.
وأرى هذا غير كاف هنا لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع وأولى عن وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب مفتاح العلوم إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمدا صلى الله عليه وسلم على أحد أمرين: إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر وإما أن الدعوى باطلة وذلك أن في قرآنكم {وما علمناه الشعر} وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر، ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا: فمن الطويل من صحيحه: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.