فصل: تفسير الآيات (81- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الآيات المباركات تشير إلي حقيقة علمية مبهرة، وواحدة من أهم العمليات الحيوية الأساسية، ألا وهي عملية البناء الحيوي التي يقوم بها النبات الأخضر والتي عرفت باسم عملية التمثيل الضوئي أو عملية البناء الضوئي.
والنباتات الخضراء قد خصها الخالق سبحانه وتعالى بصبغ اليخضور الكلوروفيل الملون لأوراق وأنسجة النباتات ذاتية الاغتذاء باللون الأخضر؛ وأعطي هذا الصبغ وغيره من الأصباغ النباتية القدرة علي اصطياد وتخزين جزء من طاقة الشمس التي تصل إلي الأرض، وهي طاقة كهرومغناطيسية تتركب من موجات ذات أطوال متعددة تتحرك من أشعة جاما، إلي الأشعة السينية، إلي الأشعة فوق البنفسجية، إلي الأطياف المرئية أو أطياف النور الأبيض إلي الأشعة تحت الحمراء، إلي الموجات الراديوية بمختلف أطوالها.
وهناك ثمانية أنواع من هذه الأصباغ الخضراء التي تشبه في تركيبها الكيميائي جزيء الهيموجلوبين الذي يعطي لدم الإنسان ولدماء كثير من الحيوانات لونها الأحمر القاني تماما، فيما عدا استبدال ذرة الحديد المركزية في جزئ الهيموجلوبين بذرة مغنيسيوم في جزئ اليخضور؛ ويشير ذلك إلي وحدة البناء كما يشير إلي وحدة الباني سبحانه وتعالى.
وتوجد الأصباغ الخضراء مادة الكلوروفيل في داخل جسيمات دقيقة للغاية تعرف باسم البلاستيدات، ويوجد منها ثلاثة أنواع مميزة هي الخضراء، والملونة بألوان أخري، والبيضاء، ويبدأ تكون كل منها من أجزاء أبسط وأدق كثيرا في الحجم تعرف باسم البلاستيدات الأولية.
والبلاستيدات هي جسيمات متناهية الضآلة في الحجم توجد في داخل الخلايا العمادية الطولية العمودية علي جدار الأوراق النباتية، ولها حرية التحرك داخل الخلية لزيادة قدرتها علي اصطياد أشعة الشمس من أية زاوية تسقط بها علي ورقة الشجر. والبلاستيدات جسيمات بويضية الشكل عادة، يحاط كل منها بغشاءين رقيقين، الخارجي منهما أملس، والداخلي متعرج علي هيئة ثنيات داخلية تفصلها صفائح رقيقة جدا؛ وتحتوي الثنيات علي الأصباغ الخضراء، بينما تفتقر إليها الصفائح الفاصلة بينها، وتحتوي البلاستيدات بالإضافة إلي الأصباغ النباتية علي العديد من الأحماض الأمينية، والمركبات البروتينية الأخري كالدهون المفسفرة، وغيرها.
ويقوم الصبغ الأخضر اليخضور في هذه البلاستيدات بالتقاط الطاقة القادمة من الشمس واستخدامها في تأيين الماء إلي الأوكسيجين الذي ينطلق عبر ثغور ورقة النبات إلي الغلاف الغازي للأرض، والإيدروجين الذي يتفاعل مع غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو لتكوين السكريات والنشويات وغيرهما من الكربوهيدرات؛ وغاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض لا تكاد نسبته تتعدي 0،03%.
وتتم عملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء علي مرحلتين، الأولي منهما تحدث في الضوء، والثانية تحدث في الظلام، والمرحلة الضوئية يتم فيها تأيين الماء إلي مكوناته من الأوكسيجين، ونوي ذرات الإيدروجين، وأعداد من الإليكترونات، وينطلق غاز الأوكسيجين فيها إلي الجو، وتستخدم كل من نوي ذرات الإيدروجين والإليكترونات الطليقة في المرحلة الثانية التي تتم في الظلام والتي من نتائجها تحويل غاز ثاني أكسيد الكربون إلي السكريات والنشويات وغير ذلك من المواد الكربوهيدراتية. وعلي العكس من ذلك فإذا أحرق السكر أو أية مواد كربوهيدراتية في وجود الأوكسيجين فإنه يتحول إلي ثاني أكسيد الكربون والماء، وتنطلق الطاقة، وكأن عملية التمثيل الضوئي هي عملية تكوين السكر بخلط ستة جزيئات من الماء مع ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون في وجود الطاقة الشمسية ومادة اليخضور، فينتج عن ذلك جزئ واحد من السكر وستة جزيئات من الأوكسجين.
وكما يأخذ النبات من طاقة الشمس بالقدر اللازم لنموه، فيحول تلك الطاقة الضوئية الحرارية إلي عدد من الروابط الكيميائية بتفاعلها مع كل من الماء وثاني أكسيد الكربون فيكون مختلف المواد الكربوهيدراتية أي المكونة من الكربون والإيدروجين التي يستخدمها النبات في بناء مختلف خلاياه وأنسجته، ويختزن الفائض عن حاجته علي هيئة النشويات البسيطة والمركبة، والسكريات المتنوعة؛ فإن النبات يأخذ كذلك العديد من عناصر الأرض والماء الصاعدين مع العصارة الغذائية التي يمتصها النبات من التربة بواسطة جذوره، وتنتقل هذه العصارة الغذائية إلي كل من الساق والفروع والأوراق عبر أوعية خاصة تعرف باسم الأوعية الخشبية التي تمتد في كل ورقة من أوراق النبات علي هيئة عرق وسطي له تفرعاته العديدة التي تنقل تلك العصارة الغذائية إلي كل خلايا الورقة الخضراء، حيث يعاد تشكيلها علي هيئة العديد من المركبات العضوية التي يحتاجها النبات؛ وتعود المركبات المصنعة في الأوراق الخضراء عبر أوعية خاصة تعرف باسم أوعية اللحاء لتقوم بتوزيعها علي جميع خلايا وأنسجة النبات حسب احتياج كل واحد منها.
ومن المركبات العضوية التي تنتجها النباتات الخضراء البروتينات من مثل الزيوت والدهون النباتية، والأحماض الأمينية، والإنزيمات، والهرمونات، والفيتامينات التي تسهم في بناء مختلف الخلايا والأنسجة المتخصصة من مثل الألياف، والأخشاب، والزهور، والثمار، والبذور، والإفرازات النباتية المتعددة كالمواد الصمغية والراتنجية وغيرها.
وباستمرار عملية التمثيل الضوئي تركز بلايين البلايين من ذرات الكربون المكونة لثاني أكسيد الكربون الجوي في داخل خلايا النباتات الخضراء خاصة الأوراق، وبذلك فإننا نجد أن وزن المادة الحية النباتية في تزايد مستمر، ولما كان كل من الإنسان وأعداد من الانواع في مملكة الحيوان يتغذي علي المواد النباتية ومنتجاتها، ويستخدم تلك الطاقة الكيميائية المختزنة فيها في تكوين مركبات كيميائية أخري تختزن أجزاء من تلك الطاقة، وتحول أجزاء منها إلي طاقة حرارية، وحركية، وكهربائية؛ ولما كان كل من الإنسان وبعض أنواع الحيوان يأكل كلا من النبات والحيوان فإن جزءا من طاقة الشمس ينتقل إلي هؤلاء الآكلين، وبذلك يزداد كم المادة الحية بتكرار تلك العمليات الحياتية والتي يلعب النبات الأخضر فيها دورا أساسيا، ويصل معدل الإنتاج السنوي من المواد العضوية النباتية إلي أكثر من أربعة آلاف تريليون طن.
وتقوم النباتات الخضراء بتثبيت أربعمائة مليار طن من الكربون المستخلص من غاز ثاني أكسيد الكربون الجوي في أجساد النباتات سنويا في المتوسط. وقد لعبت هذه العملية دورا مهما في تكوين بلايين الأطنان من الفحم الحجري عبر تاريخ الأرض الطويل خاصة في صخور العصر الفحمي الكربوني.
والمنتجات النباتية هي مصدر الطاقة الحيوية في أجساد بني الإنسان وفي أجساد الحيوانات من آكلات الأعشاب.
ومن فضلات كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون جميع أنواع المحروقات، وذلك بعد تجفيفها أو دفنها وتحللها بمعزل عن الهواء.
فالمادة العضوية في كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون أصلا من عناصر الأرض الأساسية، والماء والأوكسجين، والنيتروجين، وثاني أكسيد الكربون.
والنبات الأخضر بعملية التمثيل الضوئي يعطي الأوكسجين لكل من الإنسان والحيوان ببثه في جو الأرض، ويأخذ منهما ثاني أكسيد الكربون الذي يبثانه إلي جو الأرض، وكل من النبات والحيوان يعطي الإنسان الغذاء والطاقة ويأخذ منه فضلاته.
والأرض تعطي كل صور الحياة مختلف العناصر التي تحتاجها، والماء الذي يعين علي إتمام كل العمليات الحيوية.
والشمس تعطي كل هذه الصور الحياتية من نباتية، وحيوانية، وبشرية كل صور الطاقة التي تحتاجها، والله يهب ذلك كله من فضله، وكرمه، وجوده، ومنه، وعطائه، وبديع صنعه، وعظيم حكمته.
فمركبات اليخضور تختزن الطاقة في خلايا الشجر الأخضر، ويقابلها في الخلايا الحيوانية جسيمات الميتوكوندريا Mytochondria التي تستهلك الطاقة المأخوذة من أي من النبات أو الحيوان أو منهما معا.
وعند جفاف الشجر الأخضر وغيره من النباتات الخضراء فإنها تتحول إلي أغلب مصادر الطاقة الطبيعية تقريبا ماعدا الطاقة النووية، وطاقة الرياح، وطاقة المد والجزر، والحرارة الأرضية، والطاقة الشمسية المباشرة. والطاقة في الشجر الأخضر أصلها من طاقة الشمس، فعند جفاف النباتات الخضراء تتحول بقاياها إلي الحطب أو القش، أو التبن، أو الخشب، أو الفحم النباتي إذا أحرق ذلك بواسطة الإنسان في معزل عن الهواء.
وإذا دفنت البقايا النباتية في البحيرات الداخلية أو في دالات الأنهار أو في الشواطئ الضحلة للبحار دفنا طبيعيا فإنها تتفحم بمعزل عن الهواء متحولة إلي الفحم الحجري.
وإذا زاد الضغط والحرارة علي الفحم الحجري في باطن قشرة الأرض فإنه يتحول إلي غاز الفحم الطبيعي.
وعندما تتغذي الحيوانات البحرية، خاصة الدقيقة منها، علي النباتات الدقيقة أو علي فتات النباتات الكبيرة ومنتجاتها الدقيقة فإن طاقة الشمس المختزنة في تلك النباتات وفتاتها تتحول في أجساد الحيوانات إلي مواد بروتينية من الزيوت والدهون الحيوانية التي تتحلل بمعزل عن الهواء إلي النفط، والغاز الطبيعي المصاحب له وكلما زادت الحرارة والضغط علي النفط المخزون في قلب قشرة الأرض تحول بالكامل إلي الغاز الطبيعي.
وكل هذه المواد من مصادر الوقود الذي يحرق طلبا للطاقة الحرارية الكامنة فيه، فيتحد أوكسجين الجو مع الكربون المتجمع في تلك المصادر من مصادر الوقود محولا إياه إلي غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق عائدا مرة أخري إلي الغلاف الغازي للأرض.
وبذلك فإن الطاقة التي استمدها الشجر الأخضر من أشعة الشمس الواصلة إلي كوكب الأرض، فانتزع بها ذرة الكربون من جزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض، هي نفس الطاقة التي تنطلق علي هيئة اللهب الحار الناتج عن احتراق أي من مصادر الطاقة تلك في أوكسجين الغلاف الغازي للأرض من مثل الخشب، أو الحطب، أو القش أو التبن أو الفحم النباتي أو الحجري أو الغاز الفحمي أو النفط أو الغاز الطبيعي، أو غاز الميثين الناتج عن تحلل الفضلات بصفة عامة، وبذلك تتحد ذرات الكربون المختزنة في تلك المصادر المتعددة للطاقة بذرات الأوكسجين الموجودة في الغلاف الغازي للأرض لتعود إليه علي هيئة جزيئات ثاني أكسيد الكربون مرة أخري وتنطلق الطاقة.
وعلي ذلك فإن عمليات الاحتراق علي سطح الأرض هي عمليات أكسدة لذرات الكربون المختزنة في المواد العضوية لمختلف أشكال الوقود لتعود مرة أخري علي هيئة ثاني أكسيد الكربون الجوي كما كانت في أول الأمر؛ وهي تشبه عملية التنفس في كل من الإنسان والحيوان، حيث يستفاد بالأوكسجين الموجود في الغلاف الغازي للأرض في أكسدة ذرات الكربون الموجودة في المواد الغذائية لتتحول إلي ثاني أكسيد الكربون الذي انتزع أصلا من الغلاف الغازي للأرض بواسطة النباتات الخضراء.
مما سبق يتضح المضمون العلمي للآية الكريمة التي فهمها أهل البادية علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخشب أو الحطب، أو بكل من المرخ والعفار، ونفهمها اليوم في إطار كل صور الطاقة ذات الأصل العضوي من النفط والغاز المصاحب له، إلي الفحم الحجري والغازات المصاحبة له، إلي الفحم النباتي، والخشب والحطب والقش والتبن وغير ذلك من الفضلات النباتية والحيوانية التي يلعب الدور الرئيسي في تكوينها الشجر الأخضر وما وهبه الله تعالى من قدرة فائقة علي احتباس جزء من طاقة الشمس يعينه علي تأيين الماء، ثم اقتناص ذرات الكربون من غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود بنسب ضئيلة جدا في الغلاف الغازي للارض لا تتعدي 0.03%، وذلك بواسطة أيون الإيدروجين الناتج عن تحلل الماء، وإطلاق الأوكسجين إلي الغلاف الغازي للأرض، وكأن حركة الطاقة علي الأرض، أو بالأحري حركة الحياة، تتلخص في تبادل ذرة الكربون بين النبات والحيوان والانسان، يأخذها النبات من الغلاف الغازي للأرض بعملية التمثيل الضوئي ويهبها لكل من الإنسان والحيوان والأرض، ثم يطلقها كل من الإنسان والحيوان إلي الغلاف الغازي للأرض بعملية التنفس، وبين العمليتين يختزن لنا ربنا تبارك وتعالى كما هائلا من مختلف مصادر الطاقة تختزن فيه ذرات الكربون التي أخذها الشجر الأخضر من الجو واعطاها للأرض إما مباشرة أو عن طريق راقات هائلة من الفحم أو مخزونا ضخما من النفط والغاز حتي يحرقه الإنسان فيرده مرة أخري إلي الغلاف الغازي للأرض.
فسبحان القائل: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} (يس:80).
والقائل: أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم (الواقعة:71- 74).
وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي هذا القرآن العظيم، والحمدلله الذي حفظه لنا بنفس لغة وحيه اللغة العربية، فحفظه لنا بكل إشراقاته النورانية، وصفائه الرباني، وإعجاز آياته لفظا ومحتوي في كل قضية تناولتها، وكل أمر تعرضت له حتي يبقي هذا الوحي الخاتم حجة علي الناس في كل عصر وفي كل حين من وقت نزوله إلي يوم الدين. اهـ.

.تفسير الآيات (81- 83):

قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: أليس الذي قدر على ذلك بقادر على ما يريد من إحياء العظام وغيرها، عطف عليه ما هو أعظم شأنًا منه تقديرًا على الأدنى بالأعلى فقال: {أوليس الذي خلق} أي أوجد من العدم وقدر {السماوات والأرض} أي على كبرهما وعظمتهما وعظيم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقًا للأمر وتأكيدًا للتقرير فقال: {بقادر} أي بثابت له قدرة لا يساويها قدرة، ومعنى قراءة رويس عن يعقوب بتحتانية مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف ورفع الراء أنه يجدد تعليق القدرة على سبيل الاستمرار {على أن يخلق} ولفت الكلام إلى الغيبة إيذابنًا بأنهم صاروا بهذا الجدل أهلًا لغاية الغضب فقال: {مثلهم} أي مثل هؤلاء الأناسي أي يعيدهم بأعيانهم كما تقول: مثلك كذا أي أنت، وعبر به إفهامًا لتحقيرهم وأن إحياء العظام الميتة أكثر ما يكون خلقًا جديدًا، بل ينقص عن الاختراع بأن له مادة موجودة، وعبر بضمير الجمع لأنه أدل على القدرة، قال الرازي: والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء مقدرًا بتقدير الإرادة والعلم واقعًا على وفقهما وإن كانت صفات الله تعالى أعلى من أن يطمحها نظر عقل، وتلحقها العبارات اللغوية، ولكن غاية القدرة البشرية واللغة العربية هذا.
ولما كان الجواب بعد ما مضى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة الاعتراف، قال سبحانه مقررًا لما بعد النفي إشارة إلى أنه تجب المبادرة إليه، ولا يجوز التوقف فيه ومن توقف فهو معاند: {بلى} أي هو قادر على ذلك {وهو} مع ذلك أي كونه عالمًا بالخلق {الخلاق} البالغ في هذه الصفة مطلقًا في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل شيء ما لا تحيط به الأوهام، ولا تدركه العقول والأفهام، ولم ينازع أحد في العلم بالجزئيات بعد كونها، كما نازعوا في القدرة على إيجاد بعض الجزئيات، فاكتفى فيه بصيغة فعيل فقيل: {العليم} أي البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة، فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماضٍ ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك، أنتج قوله مؤكدًا لأجل إنكارهم القدرة على البعث: {إنما أمره} أي شأنه ووصفه {إذا أراد شيئًا} أي إيجاد شيء من جوهر أو عرض أيّ شيء كان {أن يقول له كن} أي أن يريده؛ ثم عطف على جواب الشرط على قراءة ابن عامر والكسائي بالنصب، واستأنف على قراءة غيره بالرفع بقوله: {فيكون} أي من غير مهلة أصلًا على وفق ما أراد.
ولما كان ذلك، تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال: {فسبحان} أي تنزه عن كل شائبة نقص تبزها لا تبلغ أفهامكم كنهه، وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي ملكه التام وملكه ظاهرًا وباطنًا.
ولما كان التقدير: فمنه تبدءون، عطف عليه قوله: {وإليه} أي لا إلى غيره من التراب أو غيره، ولفت القول إلى خطابهم استصغارًا لهم وإحتقارًا فقال: {ترجعون} أي معنى في جميع أموركم وحسًا بالبعث لينصف بينكم، فيدخل بعضًا النار وبعضًا الجنة، ونبهت قراءة الجماعة بالبناء للمفعول على غاية صغارهم بكون الرجوع قهرًا وبأسهل أمر، وزادت قراءة يعقوب بالبناء للفاعل بأن انقيادهم في الرجوع من شدة سهولته عليه كأنه ناشيء عن فعلهم بأنفسهم اختيارًا منهم، فثبت أنه سبحانه على كل شيء قدير، فثبت قطعًا أنه حكيم، فثبت قطعًا أنه لا إله إلا هو، وأن كلامه حكيم، وثبت بتمام قدرته أنه حليم لا يعجل على أحد بالعقاب، فثبت أنه أرسل الرسل للبشارة بثوابه والنذارة من عقابه، فثبت أنه أرسل هذا النبي الكريم لما أيده به من المعجزات، وأظهره على يده من الأدلة الباهرات، فرجع آخر السورة بكل من الرسالة وإحياء الموتى إلى أولها، واتصل في كلا الأمرين مفصلها بموصلها، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب. اهـ.