فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [16].
مشروعية الطلاق في الإسلام:

.التحليل اللفظي:

{قروء} جمع قُرء بالفتح والضم، ويطلق في كلام العرب على الحيض وعلى الطهر فهو من الأضداد.
قال في القاموس: والقَرْءُ بالفتح ويُضم: الحيض، والطهر والوقت، وأقرأت حاضت وطهرت، وجمع الطهر: قروء، وجمع الحيض: أقراء.
وأصل القرء: الاجتماع وسمي الحيض قرءًا لاجتماع الدم في الرحم.
قال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت ومن مجيء القرء بمعنى الحيض قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» أي أيام حيضك، وقول الشاعر:
له قروء كقروء الحائض

ومن مجيئه بمعنى الطهر قول الأعشى:
مورثة عزًّا وفي الحيّ رفعةً ** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

{وَبُعُولَتُهُنَّ} أي أزواجهن جمع بعل الزوج قال تعالى: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] والمرأة بعلة ويقال لها: بعل أيضًا أفاده صاحب القاموس. وأصل البعل: السيّد المالك، يقال: من بعد هذه الناقة؟ أي من ربها؟ ومن سيّدها؟
والمعنى: أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص بالعدة.
{دَرَجَةٌ} الدرجة في اللغة المنزلة الرفيعة قال تعالى: {هُمْ درجات عِندَ الله} [آل عمران: 163] وسميت درجة تشبيها لها بالدرج الذي يرتقى به إلى السطح، ويقال لقارعة الطريق مدرجة لأنها تطوي منزلًا بعد منزل، وأصل درج بمعنى طوى يقال: درج القوم أي طَووا عمرهم وفنوا وفي الأمثال هو أكذب من دبّ ودرج أي أكذب الأحياء والأموات.
{عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي منيع السلطان غالبٌ لا يٌغلَب، حكيم في أحكامه وأفعاله.
{الطلاق} الطلاق حلّ عقدة النكاح، وأصله الانطلاق والتخلية، يقال: ناقة طالق أي مهملة قد تركت في المرعى بلا قيد ولا راعي، فسميت المرأة المخلّى سبيلها طالقًا لهذا المعنى.
قال الراغب: أصل الطلاق التخليةُ من الوثاق يقال: أطلقتُ البعير من عقاله وطلّقته إذا تركته بلا قيد، ومنه استعير: طلّقتُ المرأة نحو خلّيتها فهي طالق أي مخلاّة عن حِبالَة النكاح، وطلّقه المريض أي خلاه قال الشاعر:
تطلّقه طورًا وطورًا تراجع

{تَسْرِيحٌ} التسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية: أرسلها لترعى السرح وهو شجر له ثمر، ثم جعل لكل إرسالٍ في الرعي.
قال الراغب: والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق في كونه مستعارًا من إطلاق الإبل.
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن إنهاء العدة، لأنه بعد انقضاء العدة لا سلطان للرجل عليها، والعرب تقول: بلغ البلد إذا شارف الوصول إليها.
قال الشوكاني: البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلاّ مجازًا لعلاقة مع القرينة كما هنا، لأن المرأة إذا خرجت من العدة لم يبق للزوج عليها سبيل.
{ضِرَارًا} أي بقصد الإضرار، قال القفال: الضّرار هو المضارّة قال تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] أي ليضارّوا المؤمنين ومعنى المضارة الرجوع إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة.
{تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: المنع والتضييق، يقال: أعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وداء عُضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وكل مشكلٍ عند العرب فهو معضل، ومنه قول الشافعي رضي الله عنه:
إذا المعضلاتُ تصدَّيْنني ** كشفت حقائقها بالنظر

قال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج.
والمعنى: فلا تمنعوهن من الزواج بمن أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن.
{زكى لَكُمْ} أي أنمى وأنفع يقال: زكا الزرع إذا نما بكثرة وبركة.
{وَأَطْهَرُ} من الطهارة وهي التنزه عن الدنس وعن الذنوب والمعاصي.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله تعالى ما معناه: الأزواج المطلقات اللواتي طلقهن أزواجهن لسبب من الأسباب على هؤلاء انتظار مدة من الزمن هي مدة ثلاثة أطهار أو ثلاث حيَض لمعرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب، وأزواجهن أحق بهنّ في الرجعة من الأجانب إذا لم تنقض عدتهن، وكان الغرض من هذه الرجعة الإصلاح لا الإضرار ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أمر الله عز وجل، وللرجال عليهن درجة القوامة، والإنفاق والإمرة والطاعة.
ثم بين تعالى أن الطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تتزوج بعده بزوج آخر، أما إذا لم يكن الطلاق ثلاثًا فله أن يراجعها إلى عصمة نكاحة، فإما أن يمسكها بالمعروف فيحسن معاشرتها وصحبتها وإمّا أن يطلق سراحها للتزوج بمن تشاء بعلّها تسعد بالزواج الثاني {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130].
ولا يحل الله لكم أيها الرجال أن تأخذوا ممّا دفعتم إليهن من المهور شيئًا، لأنكم قد استمتعتم بهن إلا إذا خفتم سوء العشرة بين الزوجين، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلّقها فليس هناك جناح من أخذ الفداء.
ثم بيّن تعالى أنه إذا طلّقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فلا تحلّ له إلاّ بالزواج بزوج آخر، بعد أن يذوق عُسيلتها وتذوق عُسيلته، فإن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول إن كان ثمة دلائل تدل على الوفاق والتلاق.
ثم أمر تعالى الرجال بالإحسان في معاملة الأزواج وعدم الإضرار بهن، كما أمر الأولياء بألاّ يمنعوا المرأة من العودة إلى زوجها إذا رغبت في العودة، لاسيما إذا صلحت الأحوال وظهرت أمارات الندم على الزوجين في استئناف الحياة الفاضلة، والعيشة الكريمة.

.سبب النزول:

أولًا: روي أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان يطلّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فعمد رجلٌ لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: لا آويك ولا أدعك تحلّين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضيُّ عدتك راجعتك، فشكت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} الآية.
ثانيًا: وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان الرجل يطلّق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها، يفعل بها ذلك يضارّها ويعضلها فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} الآية.
ثالثًا: وأخرج البخاري والترمذي عن مَعْقل بن يسار رضي الله عنه أنه زوّج أخته رجلًا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخُطَّاب فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوّجتك فلطّقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} الآية فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوّجك وأكرمك.

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور {ثَلاَثَةَ قرواء} بالهمزة وقرأ نافع {ثلاثة قرُوّ} بكسر الواو وشدها من غير همز، وقرأ الحسن {قَرء} بفتح القاف وسكون الراء.
2- قرأ الجمهور {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وقرأ حمزة {إلا أن يُخافا} بضم الياء مبنيًا للمجهول، وقرئ يظنّا.
3- قرأ الجمهور {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا} بالياء أي يبينها الله، وقرأ عاصم {نبينها} بالنون وهي نون التعظيم.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} المطلقات مبتدأ والجملة الفعلية خبر، و{ثَلاَثَةَ قرواء} منصوب على الظرفية، والمفعول به محذوف أي يتربصن الزوج.
2- قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ} أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل {يحل} والتقدير: لا يحل لهن كتمان، وما اسم موصول بمعنى الذي مفعول ل {يكتمن}.
3- قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} للرجال خبر مقدم و{درجة} مبتدأ مؤخر، وجاز الابتداء بالنكرة لتقدم الجار والمجرور عليها.
4- قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ} ضرارًا مفعول لأجله أي من أجل الضرار، وجوّز بعضهم أن يكون منصوبًا على الحال أي مضارين و{لتعتدوا} متعلق ب {ضرارًا}.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} خبرٌ والمراد منه الأمر أي {ليتربّصْن} وفائدته التنبيه إلى أنه ممّا ينبغي أن يتلّقى بالقبول والمسارعة إلى الإتيان به.
قال صاحب الكشاف: التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، إشعارًا بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر فهو يخبر عنه موجودًا، ونظيره قولهم في الدعاء: رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
اللطيفة الثانية:
قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ولم يذكره في الآية السابقة {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فما هي الحكمة؟
والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجًا لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق.
اللطيفة الثالثة:
قوله تعالى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب، تقول: إن كنت مؤمنًا فلا تؤذ أباك، وإن كنت مسلمًا فلا تغشّ الناس، فهذه هي النكتة في التعبير.
اللطيفة الرابعة:
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} الآية أي أحق برجعتهن.
قال الإمام الفخر: الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
اللطيفة الخامسة:
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} فيه إيجاز وإبداع، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: لهنّ على الرجال من الحقوق، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات، وفيه من علم البديع ما يسمى بالطباق بين لفظَيْ {لهنّ} و{عليهن} وهو طباق بين حرفين، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في حجة الوداع بقوله: «ألا إنّ لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقًا، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن».
وعن ابن عباس أنه قال: «إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي، لأن الله تعالى يقولك {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ}».
اللطيفة السادسة:
الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله} ليست درجة تشريف وإنما هي درجة تكليف وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق {الرجال قوامون عَلَى النساء} [النساء: 34] الآية والله تعالى قد وضع ميزانًا دقيقًا للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل، وهذا هو المبدأ العادل الكريم.
اللطيفة السابعة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول خلع كان في الإسلام في «امرأة ثابت بن قيس أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا، والله ما أعيب عليه في خلُق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام، ما أطيقه بغضًا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، فقال زوجها يا رسول الله: أعطيتها أفضل ما لي حديقة لي، فإن ردّت عليّ حديقتي طلقتها، فقال لها عليه السلام ما تقولين؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، قال ففرق بينهما».
اللطيفة الثامنة:
قال العلامة أبو السعود: وضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} {تِلْكَ حُدُودُ الله} {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة في النفوس، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.