فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال تعالى موبخًا لهم:
{ألم أعهد إليكم} أي: أوصيكم إيصاء عظيمًا بما نصبت من الأدلة ومنحت من العقول وبعثت من الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزلت من الكتب في بيان الطريق الموصل إلى النجاة.
ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتبكيتهم وكانت هذه السورة قلبًا وكان القلب أشرف الأعضاء وكان الإنسان أشرف الموجودات خصه بالخطاب بقوله تعالى: {يا بني آدم} أي: على لسان رسلي عليهم الصلاة والسلام، واختلف في معنى: هذا العهد على وجوه أقواها: ألم أوص إليكم كما مر، وقيل: آمركم، وقيل: غير ذلك، واختلفوا في هذا العهد أيضًا على أوجه:
أظهرها: أنه مع كل قوم على لسان رسلهم كما مر، وقيل: هو العهد الذي كان مع آدم في قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم}.
وقيل: هو الذي كان مع ذريته عليه السلام حين أخرجهم وقال: {ألست بربكم قالوا بلى}.
{أن لا تعبدوا الشيطان} أي: البعيد المحترق بطاعتكم فيما يوسوس به إليكم والطاعة قد تطلق على العبادة.
ثم علل النهي عن عبادته بقوله تعالى: {إنه لكم} والتأكيد؛ لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته {عدو مبين} أي: ظاهر العداوة جدًا من جهة عداوته لأبيكم التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشرف منها ومن جهة أمركم بما ينغص الدنيا من التخالف والخصام، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه فكيف إذا كان أكثره أكدارًا وأدناسًا؟ فكيف إذا كان شاغلًا عن الباقي؟ فكيف إذا كان عائقًا عن المولى؟ فكيف إذا كان مغضبًا له حاجبًا عنه؟ فإن قيل: إذا كان الشيطان عدوًا للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزنا، والشرب، ونحو ذلك، ويكره ما يسخطه من المجاهدة، والعبادة ونحو ذلك؟
أجيب: بأنه يستعين عليه بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله تعالى، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سببًا لفساد حاله، ويدعوه بها إلى مسالك المهالك، وكذا يستعين بغضبه الذي خلقه الله تعالى فيه لدفع المفاسد ويجعله سببًا لوباله وفساد أحواله، وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضار، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد في مرضه ومن معدته فاسدة لا تهضم القليل من الغداء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادة الرحمن بقوله عاطفًا على أن لا:
{وأن اعبدوني} أي: وحدوني وأطيعوني {هذا} أي: الأمر بعبادتي {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: بليغ الاستقامة وعبادة الشيطان طريق ضيق معوج غاية الضيق والعوج، وقرأ قنبل بالسين وخلف بالإشمام أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد.
ثم ذكر ما ينبه لعداوة الشيطان بقوله تعالى: {ولقد أضل منكم} أي: عن الطريق الواضح السوي بما سلطه به من الوسوسة {جبلًا} أي: أممًاكبارًا عظامًا ما كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد، ومع ذلك كان يلعب بهم كما تلعب الصبيان بالكرة، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيدًا وأحقر أمرًا، وقرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء الموحدة وتشديد اللام مع التنوين، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة، والباقون بضم الجيم والموحدة وكلها لغات ومعناها: الخلق والجماعة أي: خلقًا {كثيرًا} ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي: عداوته وإضلاله، وما حل بهم من العذاب فتؤمنوا ويقال لهم في الآخرة:
{هذه جهنم} أي: التي تستقبلكم بالعبوسة، والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين {التي كنتم توعدون} أي: إن لم ترجعوا عن غيّكم.
{اصلوها} أي: قاسوا حرها وتوقدها وهول أمر ذلك اليوم فإن ذكره على حد ما مضى بقوله تعالى: {اليوم} ليكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة وشتان ما بين الشغلين {بما} أي: بسبب ما {كنتم تكفرون} أي: تسترون ما هو ظاهر جدًا بعقولكم من آياتي في دار الدنيا.
تنبيه:
في هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه أحدها: قوله تعالى: {اصلوها} أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.
ثانيها: قوله تعالى: {اليوم} يعني: العذاب حاضر ولذاتهم قد مضت وبقي اليوم العذاب. ثالثها: قوله تعالى: {بما كنتم تفكرون} فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام كما قيل:
أليس بكاف لذي همة ** حياء المسيئ من المحسن

ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة؟ نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولًا: {اليوم} على النسق الماضي في مظهر العظمة؛ لأنه أليق بالتهويل {نختم} أي: بما لنا من عظيم القدرة {على أفواههم} أي: الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه: {والله ربنا ما كنا مشركين} {وتكلمنا أيديهم} أي: بما عملوا إقرارًا هو أعظم شهادة {وتشهد أرجلهم} أي: عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار {بما كانوا} أي: في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون} فكل عضو ينطق بما صدر عنه، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولًا: لأنها كانت مباشرة دليلًا على حذفه من حيز الأرجل ثانيًا: وأثبت الشهادة للأرجل ثانيًا؛ لأنها كانت حاضرة دليلًا على حذفها من حيز الأيدي أولًا.
وتقريبه: أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة، وفي كيفية هذا الختم وجهان:
أقواهما: أن الله تعالى يسكت ألسنتهم، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات.
والوجه الآخر: أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرءوس لا يجدون عذرًا فيعتذرون، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن.
والصحيح الأول لما روى أبو هريرة: أن ناسًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال: فيلقى العبد فيقول: ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال: بلى يا رب قال: فظننت أنك ملاقي فيقول: لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال: ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال: فيقال له: أفلا نبعث عليك شاهدنا قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه، فيقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، قال: وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه».
ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك قال: قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه قال: يقول العبد: يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول: بلى فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني فيقول تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا} وبالكرام الكاتبين شهودًا فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بُعدًا لَكُنَّ أو سحقًا فعنكن كنت أناضل» وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه».
تنبيه:
ههنا سؤالات: الأول: ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال: {نختم} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، الثاني: ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، الثالث: أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلًا، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم؟
أجيب: عن الأول: بأنه لو قال: نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبرًا وقهرًا والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال: {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} أي: بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
وأجيب عن الثاني: بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى: {وما عملته أيديهم} أي: ما عملوه وقال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} أي: ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن.
وأجيب عن الثالث: بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقال: ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني، وأيضًا فإنا نقول: في رد شهادتها قبول شهادتها؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنبًا في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا، وهذا كمن قال لفاسق: إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق: كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد؛ لأنه إن صدق في قوله: كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضًا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني: كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه، ثم بين سبحانه وتعالى أنه قادر على إذهاب الأبصار كما هو قادر على إذهاب البصائر بقوله تعالى: {ولو نشاء} وعبر بالمضارع ليتوقع في كل حين فيكون أبلغ في التهديد {لطمسنا على أعينهم} أي: الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس كقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} يقول: إنا أعمينا قلوبهم ولو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة وقوله تعالى: {فاستبقوا الصراط} أي: ابتدروا الطريق ذاهبين كعادتهم عطف على لطمسنا {فأنى} أي: فكيف {يبصرون} الطريق حينئذ وقد أعمينا أعينهم أي: لو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عميًا يترددون فلا يبصرون الطريق وهذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس ومقاتل: معناه لو نشاء لطمسنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم.
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال تعالى: {ولو نشاء} أي: مسخهم {لمسخناهم} أي: حولناهم عن تلك الحالة فجعلناهم حجارة أو جعلناهم قردة وخنازير.
ولما كان المقصود من المفاجأة بهذه المصائب بيان أنه سبحانه لا كلفة عليه في شيء من ذلك قال تعالى: {على مكانتهم} أي: المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منهم شاغلًا له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وقرأ شعبة بألف بعد النون على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد {فما استطاعوا} أي: بأنفسهم بنوع معالجة {مضيا} أي: إلى جهة من الجهات ثم عطف على جملة الشرط قوله تعالى: {ولا يرجعون} أي: يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر قيل: لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
{ومن نعمره} أي: نطل عمره إطالة كثيرة {ننكسه} قرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وتشديد الكاف مكسورة من نكسه مبالغة، والباقون بفتح النون الأولى وسكون الثانية وتخفيف الكاف مضمومة من نكسه وهي محتملة للمبالغة وعدمها ومعنى ننكسه: {في الخلق} أي: خلقه نرده إلى أرذل العمر يشبه الصبي في الخلق، وقيل: ننكسه في الخلق أي: ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنتين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلا تزيد فيه غريزة ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء هذا في البدن، وأما في المعارف فتارة وتارة وهذا أيضًا في غير الأنبياء عليهم السلام، أما هم فلا ينقص شيء من قواهم بل تزداد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي غير مكترث وأن الصحابة رضي الله عنهم يجهدون أنفسهم فيكون جهدهم أن لا يدركوا مشيته الهوينا وأنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقًا من نفسه أنه يصرع من صارعه فلم يملكه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعاد إلى ذلك ثلاث مرات كل ذلك لا يتمسك في يده حتى خرج يقول: إن هذا لعجب يا محمد تصرعني، وحتى: أنه دار على نسائه وهن تسع كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس.
ولم يحك عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ممن عاش منهم ألفًا وممن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة: «أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صَكّهُ ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني لعبد لا يريد الموت قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي: رب ثم ماذا؟ قال: الموت قال: فالآن» وكان موسى وقت قبضه ابن مائة وعشرين سنة {أفلا يعقلون} أي: أن القادر على ذلك عندهم قادر على البعث فيؤمنون، وقرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
ولما منح الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون، وأتى بقرآن أعجز الأنس والجن، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافًا لما رموه به بغيًا وكذبًا وعدوانًا قال تعالى: {وما علمناه} أي: نحن {الشعر} فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفًا إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم {وما أنا من المتكلفين} لأن ذلك، وإن كنتم أنتم تعدونه فخرًا لا يليق بجنابنا؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لابد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلًا: «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا أو قطيعة رحم».
ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جدًا عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحًا وهجوًا فيكون أكثره كذبًا إلى غير ذلك.