فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَقَدْ أَضلَّ} أي: الشيطان وأغوى بالشرك: {مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} أي: خلقًا كثيرًا قبلكم. فحاق بهم سوء العذاب: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي: من أولي العقل. إنكار لأن يكونوا منهم، وقد قامت البراهين والإنذارات.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: عندما يجحدون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، قال الرازي: وفي الختم على الأفواه وجوه، أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة. فكما جاز تحركه بها، جاز تحرك غيره بمثلها، والله قادر على الممكنات. والوجه الآخر، أنهم لا يتكلمون بشيء؛ لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم، فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليئوس، لا يجد عذرًا فيعتذر، ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار، حتى تنطق به الأيدي والأبصار. كما يقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار. إشارة إلى ظهور الحزن، والأول صحيح. انتهى. أي: لإمكانه وعدم استحالته، فلا تتعذر الحقيقة. ويؤيده آية: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف، مستشهدًا به في ذلك، فقال:
يَنْطِقُ الْفُوْنُغْرَاْفُ لَنَاْ دَلِيْلٌ ** عَلَىْ نُطْقِ الْجَوَاْرِحِ وَالْجَمَاْدِ

وَفِيْهِ لِكُلِّ ذِيْ نَظَرٍ مِثَاْلٌ ** عَلَىْ بَدْءِ الْخَلِيْقَةِ وَالْمَعَاْدِ

يُدِيْرُ شئونهُ فَرْدٌ بِصُوْرٍ بِهِ ** الْأَصْوَاْتُ تَجْرِيْ كَالْمِدَاْدِ

فَيَثْبِتُ رَسْمَهَا قَلَمٌ بِلَوْحٍ ** عَلَىْ وِفْقِ الْمَشِيْئَةِ وَالْمُرَاْدِ

وَبَعْدَ فَرَاْغِهَا تَمْضِيْ كَبَرْقٍ ** وَلَاْ أَثَرَ لَهَاْ فِيْ الكَوْنِ بَاْدِيْ

تَظُنُّ بِأَنَّهَاْ ذَهَبَتْ جُفَاْءٌ ** كَمَاْ ذَهَبَتْ بِرِيْحٍ قَوْمُ عَاْدِ

وَأَحْلَىْ رَنَّهَاْ فِيْهِ لِتَبْقَىْ ** كَأَرْوَاْحٍ تَجَرَّدَ عَنْ مُوَاْدِّ

مَتَىْ شَاْءَ الْمُدِيْرُ لَهَاْ مَعَاْدًا ** وَرَاْمَ ظُهُوْرُهَا فِيْ كُلِّ نَاْدِ

يُدِيْرُ الصُّوَرُ بِالْآَلَاْتِ قَسْرًا ** فَيَنْشُرُ مَيِّتَهَا بَعْدَ الرُّقُاَدِ

وَهَذِيْ آَلَةٌ مِنْ صُنْعِ عَبْدٍ ** فَكَيْفَ بِصُنْعِ خَلَّاْقِ الْعِبَاْدِ

تَبَاْرَكَ مَنْ يُعِيْدُ الْخَلْقَ طَرًّا ** بِنَفْخَةٍ صُوْرُهُ يَوْمَ التَّنَاْدِ

{وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي: لو شاء تعالى، لمسح أعينهم. فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا، لعماهم.
{وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ} أي: بتغيير صورهم وإبطال قواهم: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: مكانهم: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} أي: ذهابًا: {وَلَا يَرْجِعُونَ} أي: ولا رجوعًا؛ أي: أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم. فوضع الفعل موضعه للفواصل. وإذا كان بمعنى: لا يرجعون عن تكذيبهم، فهو معطوف على جملة: ما استطاعوا. والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم، أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك. لكنا لم نفعل لشمول الرحمة، واقتضاء لحكمه إمهالهم.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} أي: نطل عمره: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي: بتناقض قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوّه من العلم، كما قال عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} أي: من قدر على ذلك، قدر على الطمس والمسخ، وأن يفعل ما يشاء.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي: حتى يأتي بشعر. وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر. قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها، وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر، وليس منه لا لفظًا؛ لعدم وزنه وتقفيته، ولا معنىً؛ لأن الشعر تخيلات، وهذا حكم، وعقائد، وشرائع، وحقائق.
{وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي: وما يصح لمقامه؛ لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه؛ لما يرمي به الشعراء كثيرًا من الكذب، والمين، ومجافاة مقاعد الحقيقة؛ ولذا قال تعالى: {إِنْ هُوَ} أي: القرآن الذي يتلوه: {إِلَّا ذِكْرٌ} أي: عظة وإرشاد منه تعالى: {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أي: كتاب سماوي بين أمره وحقائقه، فلا مناسبة بينه وبين الشعر بوجه ما.
{لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} أي: عاقلًا متأملًا؛ لأن الغافل كالميت: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} أي: وتجب كلمة العذاب: {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: المعرضين عن اتباعه.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي: مما تولينا نحن خلقه، لم يقدر على إحداثه غيرنا {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي: متصرفون فيها تصرف الملاك، أو ضابطون قاهرون لها كما قال:
أَصْبَحْتُ لَاْ أَحْمِلُ السِّلَاْحَ وَلَاْ ** أَمْلِكُ رَاسَ الْبَعِيْرِ إِنْ نَفَرَا

{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي: صيّرناها منقادة غير وحشية: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: مركوبهم.
{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي: ينتفعون بأكل لحمه.
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي: من الجلود، والأصواف، والأوبار: {وَمَشَارِبُ} أي: من ألبانها: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أي: فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة.
{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي: ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث.
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ} أي: لآلهتهم: {جُندٌ مُّحْضَرُونَ} أي: مُعدّون لخدمتهم والذب عنهم، فمن أين لهم أن ينصرونهم، وهم على تلك الحال من العجز والضعف؟ أي: بل الأمر بالعكس. وقيل: المعنى محضرون على أثرهم في النار، وجعْلُهم- على هذا- جندًا، تهكمٌ واستهزاءٌ. وكذا لام: {لَهُمْ} الدالة على النفع.
{فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أي: في الله تعالى بالإلحاد والشرك. أو في حقك بالتكذيب والإيذاء: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: فنجازيهم عليه. كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى، للزومه له؛ إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوه الكافر، مقتضٍ لمجازاته وانتقامه. وتقديم السر، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية. أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن؛ فإنه ملاك الأمر.
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي: جدل بالباطل، بيّن الجدال، وهذه تسلية ثانية، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. تأثرت الأولى كذا وهي قوله: {فَلَا يَحْزُنكَ} الآية، عنايةً بشأنه صلوات الله عليه.
قال الطيبي: هذا معطوف على: {أَوَلَمْ يَرَوْا} قبله. والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس؛ فإنه خلق له ما خلق ليشكر، فكفر وجحد النعم والمنعم، وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقادًا متذللًا، فطغى وتكبر وخاصم.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي: في استبعاد البعث وإنكاره: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي: خلقنا إياه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي: بالية أشد البلى، بعيدة عن الحياة غاية البعد. وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام، جامد غير صفة، كالرمة والرفات، أو مشتق فعيل بمعنى فاعل، إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف، ألحق بالأسماء فلم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رمّه، بمعنى أبلاه. وأصله الأكل، من: رمت الإبل الحشيش. فكأن ما بلي أكلته الأرض. وقال الأزهري: إن عظامًا، لكونه بوزن المفرد، ككتاب وقراب، عُومل رميم معاملته، وذكر له شواهد. قال الشهاب: وهو غريب.
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين. وإنما تقاس إعادته على إبدائه: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها، وطريق ضمها إلى بعضها.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} أي: الذي خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرًا نضرًا فأثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا يوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. قال قتادة: الذي أخرج النار من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ، والعقار: من شجر البادية، في أرض الحجاز. فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدها بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، والعَفار الزند وهو الأعلى. والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى. وعكس الجوهري فجعل المرخ ذكرًا، والعفار أنثى، واللفظ مساعد له، إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر:
إِذَا الْمُرْخُ لَمْ يُوْرِ تَحْتَ الْعَفَاْرِ ** وَضُنَّ بِقَدْرٍ فَلَمْ تُعْقَبِ

وقال أبو زياد: ليس في الشجر كله أورى نارًا من المرخ، وربما كان المرخ مجتمعًا ملتفًا، وهبت الريح، وجاء بعضه بعضًا فأورى فأحرق الوادي، ولم نر ذلك في سائر الشجر. وقال الأزهري: العرب تضرب بالمرخ والعفار، المثل في الشرف العالي. فتقول: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. أي: كثرت فيهما على ما في سائر الشجر. واستمجد: استكثر واستفضل. وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارًا، وزنادهما أسرع الزناد وريًا. وفي المثل: اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ. ويقال: في كل شجر نار إلا العُنّاب.
قال الشهاب: ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين. ثم أنشد لنفسه:
أَيَاْ شَجَرِ الْعُنَّاْبِ نَاْرُكَ أَوْقَدَتْ ** بِقَلْبِيْ وَمَا الْعُنَّاْبُ مِنْ شَجَرِ النَّاْرِ

انتهى.
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية؛ لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار، وهي حارة يابسة بالفعل، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضًّا، تطرأ عليه اليبوسة والبلى.
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: مع كبر جرمهما: {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} أي: في الصغر والضعف ثانيًا، بعد ما خلقهم أولًا: {بَلَى} أي: هو القادر: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} أي: الكثير الخلق مرة بعد أخرى: {الْعَلِيمُ} أي: الواسع المعلومات.
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} أي: شأنه الأعلى، أو قوله النافذ: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} أي: إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: فيوجد عن أمره.
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} تنزيه له مما وصفهُ به المشركون، وتعجب من أن يقولوا فيه ما قالوا. وهو مالك كل شيء، والمتصرف فيه بلا وازع، ولا منازع {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
فائدة:
قال ابن كثير: الملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت. ومن الناس من زعم أن المُلك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. انتهى.
ولبعضهم: إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك، فهو بمعنى الملك التام، والله هو العليم العلام. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)}.
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة.. قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية. وقضية البعث والنشور.. تستعرض في مقاطع مفصلة. مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة. كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها. ويتمثل هذا المعنى مركزًا في النهاية في الآية التي تختم السورة: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}.. فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم. وهي خلقت الإنسان من نطفة. وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة. وهي جعلت من الشجر الأخضر نارًا. وهي أبدعت السماوات والأرض. وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود.. وذلك قوام هذا المقطع الأخي.
{وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين}.
وردت قضية الوحي في أول السورة: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر.
وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك. وأن ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم قول غير معهود في لغتهم. وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر. إنما كان هذا طرفًا من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه صلى الله عليه وسلم في أوساط الجماهير. معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه.
وهنا ينفي الله سبحانه أنه علم الرسول الشعر. وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم. فما يعلم أحد شيئًا إلا ما يعلمه الل.
ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول صلى الله عليه وسلم: {وما ينبغي له} فللشعر منهج غير منهج النبوة. الشعر انفعال. وتعبير عن هذا الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوة وحي. على منهج ثابت. على صراط مستقيم. يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله. ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال.
والنبوة اتصال دائم بالله، وتلق مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر في أعلى صوره أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته.
فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس هذه في أعلى صورها أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السما.
{إن هو إلا ذكر وقرآن مبين}.
ذكر وقرآن.. وهما صفتان لشيء واحد. ذكر بحسب وظيفته. وقرآن بحسب تلاوته. فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان. وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة:
{لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين}.
ويضع التعبير القرآني الكفر في مقابل الحياة. فيجعل الكفر موتًا، ويجعل استعداد القلب للإيمان حياة. ويبين وظيفة هذا القرآن بأنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر من به حياة. فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافروين فهم موتى لا يسمعون النذير؛ وظيفة القرآن بالقياس إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحدًا حتى تبلغه الرسالة ثم يكفر عن بينة ويهلك بلا حجة ولا معذرة!