فصل: الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ}:

اختلف المفسرون في معنى قول الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} على أقوال عديدة نذكرها بالإجمال.
أ- المراد: الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، والآية مستقلة عمّا قبلها، وهذا قول الحجّاج بن أرطأة ومذهب الرافضة.
ب- المراد: الطلاق المسنون مرتان وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومذهب مالك رحمه الله.
ج- المراد: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، وهذا قول قتادة وعروة واختيار الجمهور.
قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم من الآية الأولى، أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي الطلقة الأولى والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه: {مرتان} ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة.

.الحكم الثامن: هل يبلاح للزوج أخذ المال مقابل الطلاق؟

أمر الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى الزوج أن يأخذ شيئًا مما أعطى المرأة من المهر إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} والمراد عدم إقامة حدود الله التي شرعها للزوجين، من حسن المعاشرة والطاعة والقيام بحق كلٍ من الزوجين نحو الآخر، فإن ظهرت بوادر الشقاق والخلاف، واستحكمت أسباب الكراهية والنفرة جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ المال، وطلاقُ المرأة على هذا الوجه هو المعروف بالخُلع وقد عرّفه الفقهاء بأنه فراقُ الرجل زوجته على بدلٍ يأخذه منها.
وفي أخذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف، فإنه هو الذي أعطاها المهر، وبذل تكاليف الزواج والزفاف، وأنفق عليها، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود وطلبت الفراق فكان من الإنصاف أن تردّ عليه ما أخذت منه.
والأصل في هذا ما رواه البخاري من قصة امرأة ثابت بن قيس وقد تقدم، وفيه قال لها عليه السلام: «أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة».
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أعطاها لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} وهذا عام يتناول القليل والكثير.
وقال الشعبي والزهري والحسن البصري: لا يحل للزوج أن يأخذ زيادة على ما أعطاها، لأنه من باب أخذ المال بدون حق، وحجتهم أن الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال والنساء فلا تجوز الزيادة، والراجح أن الزيادة تجوز ولكنها مكروهة.
وقد اختلف الفقهاء هل الخلع فسخ أو طلاق؟
فذهب الجمهور إلى أنه طلاق، وقال الشافعي في القديم إنه فسخ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا خلعها هل تحسب عليه طلقة أم لا؟ والأدلة على هذه المسألة تطلب من كتب الفروع.

.الحكم التاسع: ما هو حكم المطلقة ثلاثًا، وكيف تحل للزوج الأول؟

دل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} على أن المطلقة ثلاثًا تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر، وهي التي يسميها الفقهاء بائنة بينونه كبرى وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق وبيّن أنه مرتان، ثم ذكر حكم الخلع وأعقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فدلّ على أن المراد به الطلاق الثالث.
قال القرطبي: المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
وذهب جمهور العلماء والأئمة المجتهدون إلى أن المراد بالنكاح في قوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} الوطء لا العقد، فلا تحل للزوج الأول حتى يطأها الزوج الثاني.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن المطلقة ثلاثًا تحل للأول بالعقد على الثاني، وهو ضعيف لمصادمته للحديث الآتي الصحيح.
واحتج الجمهور بما رواه ابن جرير عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة فلطقني فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب فقال لها: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك» رواه أصحاب السنن.
والمراد بالعُسيلة: الجماع، شبّه اللذة فيه بالعسل.
فقد وضّحتْ السنة المطهّرة أنّ المراد من فظ النكاح في الآية الكريمة هو الجماع لا العقد، وقال بعض العلماء إن الآية نفسها فيها دلالة على ذلك، فقد قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة، فقال فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلانٌ فلانةً أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا: نكح زوجته أرادوا به المجامعة، وهنا قال تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فالمراد منه المجامعة.

.الحكم العاشر: نكاح المحلّل وهل هو صحيح أم باطل؟

المحلِّل: بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلّقة ثلاثًا بقصد أن يحلّها للزوج الأول، وقد سمّاه عليه السلام بالتيس المستعار ففي الحديث الشريف «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلَّل له».
وقد اختلف العلماء في نكاح المحلّل فذهب الجمهور مالك وأحمد والشافعي والثوري إلى أن النكاح باطل، ولا تحل للزوج الأول.
وقال الحنفية وبعض فقهاء الشافعية: هو مكروه وليس بباطل، لأن في تسميته بالمحلّل ما يدل على الصحة لأنها سبب الحل، وروي عن الأوزاعي أنه قال: بئس ما صنع والنكاحُ جائز.
حجة الجمهور:
استدل الجمهور على فساد نكاح المحلّل بما يلي:
أولًا- حديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلّل والمحلّل له».
ثانيًا- حديث: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلّل...» الحديث.
ثالثًا- حديث ابن عباس «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلّل فقال: لا» أي لا يحل «إلاّ نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عُسيلتها».
رابعًا- ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا أوتي بمحلّل ولا بمحلّل له إلاّ رجمتهما».
خامسًا- ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلًا سأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلّها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال: لا، إلاّ نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الترجيح:
والحق ما ذهب إليه الجمهور لأن النكاح يقصد منه الدوام والاستمرار، والتأقيت يبطله فإذا تزوجها بقصد التحليل، أو اشترط الزوج عيه أن يطلّقها بعد الدخول فقد فسد النكاح لأنه يشبه نكاح المتعة حينئذٍ، وهو باطل باتفاق العلماء.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله: والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبًا في المرأة، قاصدًا لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحًا، لو وطئها وهي محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، لم تحلّ للأول بهذا الوطء، واشترط الحسن البصري الإنزال وكأنه فهمه من قوله عليه السلام: «حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك».
ثم قال: فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلّل الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه، ومتى صرّح بمقصود، في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة... ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك في تفسيره وقد أشرنا إلى بعضها فيما ذكرناه.
كلام السيد رشيد رضا في المنار:
وقال في تفسير المنار: ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثًا هو ما كان زوجًا صحيحًا عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه صوريًا غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، فإن عادت إليه كانت حرامًا، ومثال ذلك من طهّر الدم بالبول، وهو رجسٌ على رجس، ونكاحُ التحليل شرٌّ من نكاح المتعة وأشد فسادًا وعارًا... ثم نقل ما أورده ابن حجر المكي في كتابه الزواجر من الأخبار والآثار الدالة على التحريم ثم قال:
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم، وقد رأيت في لبنان رجلًا نصرانيًا ولع بشراء الكتب الإسلامية، فاهتدى إلى حقيقة الإسلام مع الميل إلى التصوف فأسلم، وقال لي: لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله، أقبحُها مسألة التجحيش أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع.
أقول: إنَّ في التحليل مفاسد كثيرة نبّه عليها العلماء، وقد عقد العلامة ابن القيم في كتابة أعلام الموقعين فصولًا في بيانها، وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين فالصواب ألا ينسب إليها حله والله المستعان.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم.
2- حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة.
3- الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعيًا ما دامت العدة لم تنته بعد.
4- الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء، وله عليها درجة القوامة والإشراف.
5- الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجًا آخر نكاحًا شرعيًا صحيحًا بقصد الدوام والاستمرار.
6- جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق.
7- حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق.
8- لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
أباح الإسلام الطلاق، واعتبره أبغض الحلال إلى الله، وذلك لضرورة قاهرة، وفي ظروف استثنائية ملحّة، تجعله دواءً وعلاجًا للتخلص من شقاء محتّم، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق. والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتصديع لبنيانها، وتمزيق لشمل أفرادها، وضرره يتعدى إلى الأولاد، فإن الأولاد حينما يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعًا للرعاية وحسن التربية، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت، ومع هذا فقد أجازه الإسلام، لدفع ضررٍ أكبر، وتحصيل مصلحة أكثر، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب، والوفاء، والهدوء، والاستقرار، لا التناحر، والخصام، والبغضاء.
فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف فاحشة الزنى فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة.
وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين- كما دلت على ذلك السنة المطهرة- فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات.
يقول الأستاذ الفاضل أحمد محمد جمال في كتابه محاضرات في الثقافة الإسلامية ما نصه: ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام المراجعة في الطلاق دون الشرائع الأخرى، حرصًا على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين، وحفاظًا على الذرية من الضياع والتشرد، واستصلاحًا لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام- وهو المرة الأولى والثانية- فترة اختبار للزوجين، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية.
كما ينبغي أن نلاحظ أيضًا أن الإسلام جاء ليصحّح وضعًا خاطئًا، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضرارًا لها، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حدًا، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيدًا {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}. اهـ.