فصل: مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لأنه أنسب بالمقام وما يخطر الذهن أنه بمعنى الجهة لا طائل تحته، وإن كانت جهة اليمين مرجحة على جهة اليسار ومشرفة عليها جاهلية وإسلاما إلا أن الإخلال الذي جاءهم من قبل رؤسائهم سواء كانوا يتكلمون معهم به من جهة يمينهم أو شمالهم فهو على حد سواء وليس مما يوجب أن يعاتب عليه في مثل هذا المقام {قالُوا} الرؤساء مجاوبين أتباعهم: ليس الأمر كما تقولون {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} من الأصل وقد أصررتم على الكفر بالرسل باختياركم وطوعكم {وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} قوة قاهرة كما زعمتم وهذا مما يؤيد التفسير الأول بأن اليمين بمعنى القوة والقهر {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ} فطرة متجاوزين الحد لأنا دعوناكم فتبعتمونا رضا لا كرها.
{فَحَقَّ} وجب {عَلَيْنا} نحن وأنتم {قَوْلُ رَبِّنا} وعيده بالعذاب الذي هددنا به رسله في الدنيا ولذلك {إِنَّا لَذائِقُونَ} وباله الآن لا محالة ثم اعترضوا لهم بقولهم {فَأَغْوَيْناكُمْ} بالدنيا ودعوناكم لمعصية الرسل وطاعتنا في الضلال حقا، والسبب: {إِنَّا كُنَّا غاوِينَ} ضالين وأردناكم لتكونوا مثلنا.
قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ} في الآخرة يكونون {فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} كما اشتركوا بالغواية في الدنيا {إِنَّا كَذلِكَ}.
مثل هذا الفعل الفظيع {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} وإنما فعلنا بهم ذلك بسبب {إِنَّهُمْ كانُوا} في الدنيا {إِذا قِيلَ لَهُمْ} قولوا {لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} عنها ويمتنعون من قولها ويأنفون من سماعها عتوا وعنادا {وَيَقُولُونَ} أيضا على طريق الإنكار {أإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} أكرم الخلق على اللّه وأفضلهم وأعقلهم قاتلهم اللّه قد جمعوا في هذه الجملة إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصم صاحبها قال تعالى ردا عليهم {بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ} من عندنا ليس كما تزعمون أنه ساحر ومجنون فهو أكمل بشر وقد آمن باللّه {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} قبله بما جاءكم به لأنهم كانوا مثله يدعون لنفى الشرك وإثبات التوحيد وقد وصفهم أمثالكم من الأمم السابقة بما وصفتم به رسولنا محمد الصادق الأمين {إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ} بتجرؤكم عليه أيها الكفرة {وَما تُجْزَوْنَ} في الآخرة {إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ولا يستثنى من العذاب الأخروي {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} بكسر اللام وفتحها كما مر في الآية 84 من سورة ص في ج 1 وقبلها مجادلة أهل النار بعضهم مع بعض في الآية 59 بما يشبه هذا فراجعهما.
{أُولئِكَ} المخلصون المقبولون عند اللّه {لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} لدينا بكرة وعشيا راجع الآية 62 من سورة مريم من ج 1 ثم أبدل في هذا الرزق قوله: {فَواكِهُ} للتلذذ ليس إلا، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب، وأن حجتهم محفوظة، لأن اللّه تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} عند بارئهم معظّمون {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} {عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية 16 من الواقعة في ج 1 {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل، وقد ذكرنا في الآية 18 من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو {مِنْ مَعِينٍ} نهر جار أو ماء ظاهر فوق الأرض يعانيه الخلق دون تكلف إلى إمعان النظر فيه ولهذا وصفها بقوله: {بَيْضاءَ لَذَّةٍ} عظيمة في شربها {لِلشَّارِبِينَ} منها تكمل فيها لذة الحواس الخمس، وقاتل اللّه أبا نواس إذ يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

لأنه قصد اشتراك كافة حواسه بالمعصية، ولأن الشارب جهرا يخشى الخجل من الناس فلا يتم به السرور، لأنه لا يكمل إلا بالحرية المطلقة، ولأن الشارب حينما يتناول الكأس يلمسه ويشمه وينظره ويذوقه، فلم تبق إلا حاسة السمع، فإذا قال له خمر عند تقديمه له كملت لذة حواسه كلها اللهم أحرم أولياءك منها في الدنيا ومتعهم بها في الآخرة وألحقنا بهم يا ربنا.
وهذه الخمرة {لا فِيها غَوْلٌ} كخمر الدنيا وهو ما يعبر عنه الأطباء بالكحول اسبيرتو لأنها إذا خلت منه لا تسكر كما يقولون، ويزعمون أنهم عربوها عن الأوربيين الذين يعبرون عنها بكلمة الكحول ولا يعلمون أنها عربية في الأصل بحتة، وأن الأجانب أخذوها منّا وأبدلوا الغين بالكاف إذ لا توجد في لغتهم.

.مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم:

ورحم اللّه داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون:
يا بو زبين حمر وامدكك بإبره ** كل الشرائع زلق من يمّنا العبرة

صاح بأعلى صوته اللّه اللّه صدقتم يا أولادي بورك فيكم حقا، واللّه كل الشرائع زلق، لأنها نسخت، وأن من يأخذ بها بعد نسخها لابد أن تزلق رجله فتؤديه إلى النار لذلك لا عبور إلى الجنة إلا باتباع شريعتنا أيها الأخوان فمن عندنا العبرة لأن شريعتنا توصل إلى الجنة وصار يصفّق طربا لذلك، مع أن الأولاد لا يعرفون هذا المعنى، وانما يعرفونه لما يتصورونه، وهكذا فإن من يسمع الصوت الحسن أو ضرب الدف أو الناي أو غيرها يؤولها على ما في قلبه ويصرفها لمحبوبه وهو رحمه اللّه من الأولياء فصرف ما سمعه إلى ما هو في قلبه، وله أخبار أخرى سنذكرها في الآية 34 من سورة المائدة في ج 3 إن شاء اللّه هذا ولا يخفى أن كل الخصال الحسنة أخذها عنا الأجانب ويا حسرتا نحن على العكس قلدناهم في المثالب وهم أخذوا عنا المناقب لأنهم يوم كنا ما كانوا شيئا وإلا لما دارت رحانا عليهم واستولينا على بلادهم ولما رجعنا الآن القهقرى دارت لهم الكرة علينا وما ذلك إلا لتركنا أمر ديننا وما سنه لنا منقذنا الأعظم وسلفنا الصالح ولا علاج لاسترداد عزنا إلا بالرجوع إلى ديننا الذي فيه شرفنا وفيه قوتنا وبتركه ذلنا وخذلاننا ولا يصلح آخرنا إلا بماصلح به أولنا اللهم أرشدنا إلى طريق الصواب وألهمنا السداد واهدنا إلى الخير واجمع كلمتنا على الحق ووحد صفوفنا بجاهك على نفسك وحرمة أنبيائك وكتبك، وأعد لنا مجدنا ومهابتنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
واعلم أن اللّه تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى اللّه عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها اللّه بقوله عز قوله: {وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها، أما هذه فلا، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم ** لبئس الندامى كنتم آل ابجرا

وعلى هذا فلا اشتراك بين خمر الدنيا والآخرة إلا بالاسم لأن حقيقة هذه غير حقيقة تلك ويكفي خمر الدنيا سوءا نتن ريحها ودوسها بالأقدام وعصرها بالأيدي الدنسة، وقيل فيها:
بنت كرم تيموها أهلها ** ثم هانوها بدوس بالقدم

ثم عادوا احكموها فيهموا ** ويلهم من جور مظلوم حكم

بيد أن خمر الآخرة من معين صاف لم تدنسها الأيدي وتعفسها الأرجل.
واعلم أن العرب تعرف الغول الذي برأ اللّه تعالى خمرة الآخرة منه، قديما قال امرؤ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها ** وسقيت النديم منها مزاجا

وتقدم ما يتعلق في هذا في الآية 19 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 25 من سورة المطففين الآتية إن شاء اللّه القائل {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ} على أزواجهن فقط لأن نساء الجنة لا ينظرن لغير أزواجهن لفرط محبتهن لهم وعدم ميلهن لغيرهم {عِينٌ} حسان واسعات الأعين {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} مستور عن النظر مصون عن اللمس كانت العرب تشبه مخدرات النساء ببيض النعام لانه يحفظه بريشه عن الغبار والريح حتى يبقى محافظا على لونه ولذلك يصفون المخدرات من النساء به فيقولون بيضة خدر في المرأة التي لم يرها أحد غير محارمها، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ** تمتعت في مطويها غير معجل

وكذلك يشبهون النساء بالبيض إذا تناسبت أعضاؤهن لأن البيضة وخاصة بيضة النعام أحسن الأشياء تناسبا وأشدها تقابلا، قال بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى ** بهن اختلافا بل أتين على قدر

وإن أحب ألوان النساء عند العرب البيض المشرب خداها بحمرة، الضارب صدغاها وجيدها بصفرة قليلة كبيض النعام فإنه ممزوج بصفار قليل، واعلم أن النعامة تقسم بيضها ثلاثة أقسام ثلثا تقعد عليه لتفرخه وثلثا تدفنه لتقوت به أفراخها عند خروجها من البيض وثلثا تأكله أثناء قعودها على البيض، فسبحان من ألهم كلا ما يصلحه وأحسن كل شيء خلقه وهداه لما به نفعه قال بعض المفسرين أن البيض المكنون هو الجوهر المصون في صدفه وليس هو مرادا هنا، واللّه أعلم، لنبوّ ظاهر اللفظ عنه، وقدمنا شيئا من هذا أيضا في الآية 23 من سورة الواقعة في ج 1 وله صلة في الآية 56 فما بعدها من سورة الرحمن في ج 3 قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} أثناء الشرب كعادة أهل الدنيا قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا ** أحاديث الكرام على المدام

ولكن بلا تشبيه لأنك لا تسمع بمجلس شرب منها إلا وتسمع فيه أنواعا من الشقاق والنزاع والضرب والشتم والسخرية وقد يقع فيه قتل وهم يرون ويعلمون ولا ينتهون ولا يعتبرون.
{قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ 51} في الدنيا ينكر البعث وكان {يَقُولُ} لي {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} لما يقوله هذا الذي يزعم أنه رسول اللّه بأنا {أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا} فبلينا {أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ} محاسبون مؤاخذون بما نفعل في هذه الدنيا كلا لا نصدق، وقد جاء في الحديث العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأماني ثم التفت هذا المتكلم وخاطب أصحابه {قالَ} رجل من أهل الإيمان لجماعة معه في الجنة {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} معي في النار لأريكم ذلك الرجل الذي كان ينكر الحشر والحساب؟ قالوا بلى {فَاطَّلَعَ} القائل وتابعه رفاقه {فَرَآهُ} لأنه يعرفه دونهم فإذا هو {فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} وسطها وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة بالنسبة للجوانب المحيطة به ثم طفق يخاطبه {قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ} قاربت وأوشكت يا قريني في الدنيا {لَتُرْدِينِ} تهلكني في الآخرة وتوقعني بما وقعت فيه الآن {وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي} الذي ثبتني على الإسلام والإيمان {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في هذه النار التي أنت فيها.
ولم ينبه اللّه تعالى عن هذا القرين ماذا كان يعمل في الدنيا، فإذا حمل على قرينه من الشياطين يكون قوله ذلك من قبيل الوسوسة والإغواء، وان كان رفيقا له أو شريكا من الإنس وأخا كافرا أو عاصيا كما نص اللّه في سورة الكهف الآية 32 الآتية وهي {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} فيكون قوله على ظاهره وهو أولى واللّه أعلم كما سيأتي هناك إن شاء اللّه.
ثم يقول أهل الجنة لسدنتها من الملائكة عند رؤيتهم ذلك النعيم المقيم حرصا على بقائهم فيها وخوفا من حرمانهم منه {أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} بعد هذا وهل إنا لا نموت {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى} التي أحيانا اللّه بعدها ونعمتنا في هذه النعمة الجليلة {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} بعدها يقولون هذا على طريق التحدث بالنعمة لأنهم يعلمون أنهم لا يموتون ولا يعذّبون.
وأنهم فيها خالدون بإخبار اللّه تعالى إباهم بواسطة ملائكته أو أنه كان سرورا منهم بدوام النعم لا على طريق الاستفهام، وعلى هذا فإن الملائكة تقول لهم بل أنتم مخلدون فيما أنتم فيه فيقولون جميعا {إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز فوقه ولا سعادة بعده ولا أفضل ولا أجل منه ثم يقولون لبعضهم {لِمِثْلِ هذا} الذي نحن فيه من الخير {فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} لا للشهوات الدنيوية الدنيئة الفانية قال:
إذا شئت أن تحيا حياة هنيئة ** فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا

لأن زوال النعم عذاب لا يقابله عذاب ولا يعدل الفرح الذي يحصل منه عند وجود النعم شيئا أبدا وهنا انتهى كلام أهل الجنة، قال تعالى: {ذلِكَ} المشار إليه من قوله تعالى {لهم رزق معلوم} إلى هنا {خَيْرٌ نُزُلًا} أيها الناس {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} التي هي نزل أهل النار وهي شجرة مرة خبيثة الطعم يكره أهل النار على أكلها فيزّقمونها على مضض زيادة في تعذيبهم {إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً} كبيرة ومحنة عظيمة وبلية خطيرة {لِلظَّالِمِينَ} المتوغلين في الظلم الحريصين على فعله، ثم وصفها اللّه تعالى فقال: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} في قعرها وأسفل شيء فيها وترفع أغصانها إلى دركات النار وثمرها المعبر عنه بقولها {طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ} في البشاعة والقباحة، واعلم أنه مما لا شك فيه أن أحدا لم ير الشياطين على صورتهم التي خلقهم اللّه عليها لأنه خارج عن طوق البشر وكذلك الملائكة إلا أنه استقر في النفوس حسن الملائكة وقبح الشياطين فصاروا يشبهون كل حسن بالملائكة وكل قبح بالشياطين فيقولون للرجل الطيب كأنه ملك وللخبيث كأنه شيطان، قال امرؤ القيس:
أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فقد شبه سنان الرمح بأنياب الغول من حيث لم يره وقد شبه اللّه ثمر تلك الشجرة برءوس الشياطين لأنها في تقدير البشر قبيحة جدا، وهي كذلك في الوهم والخيال ووجه الشبه وجامعه وجود النفرة في كل والكراهية لهما {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها} رغما عنهم لأنه من جملة العذاب المقدر لهم {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ}.
قسرا رهبة من الملائكة الموكلين بعذابهم إذ يلجئونهم إلى أكله بالضرب المبرح الذي لا يقاس بضرب أهل الدنيا وناهيك أن هذا من البشر وذاك من الملائكة الغلاظ الشداد {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} ماء شديد الغليان يقطع الأمعاء ومعنى الشوب الخلط والمزج تقول شاب اللبن إذا مزجه بالماء والضمير في عليها يعود للشجره أم تلك الثمرة لأنهم يتناولونها منها {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} بعد الأكل من الشجرة والشرب من الحميم لأنهما بمكان آخر عن مقرهم المنوه به بقوله: {لَإِلَى الْجَحِيمِ} ولذلك جاء العطف بالتّراخي ومن هنا أخذ أهل الدنيا تخصيص محل للأكل من دورهم على حدة وخصّصوا لدوابهم مرعى خارجا عن دورهم، قال تعالى في وصفهم أيضا {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} وجدوا {آباءَهُمْ ضالِّينَ} فثبطوهم على ضلالهم {فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ} يسرعون ويهرولون بشدة منكبين على عمل آبائهم ولم يصغوا لنصّاحهم ولم يتعظوا بمن سلف من الأمم المعذبين بل قلدوا آباءهم طائعين مختارين، لذلك عذبوا معهم.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} أي كفار مكة ومن حولها {أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} من الأمم الخالية إذ لم يهتد منهم إلا القليل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} ينذرونهم بأسنا ويخوفونهم عذابنا ويحذرونهم يومنا هذا فلم يمتثلوا ولم يرتدعوا فأهلكناهم بإصرارهم على الكفر {فَانْظُرْ} يا سيد الرسل {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} الدمار والتتبير الذي عمهم {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} له والذين استخلصهم لذاته راجع الآية 40 المارة فإن هؤلاء على المعنيين بمعزل عنهم لأنهم في الخيرات رافلون يتمتعون في النعيم {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} لتدمير قومه بعد أن أيس من إيمانهم بإعلامنا إياه بذلك وبإنجاء أهله مما ينزل بهم من العذاب فأجبناه وعزتي وجلالي يا حبيبي يا محمد إنا نحن إله الكل {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} لأوليائنا عند حلول الضيق بهم واللام هذه واقعة في جواب القسم المحذوف المقدر كما ذكرناه والمخصوص بالمدح محذوف أيضا وقد قدّرناه كما بيناه في هذه الآية {وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ} كلهم إلا زوجته الكافرة وابنه كنعان المتمنع عن دخول السفينة مع أبيه لإصراره على كفره، ولذلك استثنيناهما من الانجاء بقوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ} الآية 81 وبقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} الآية 67 من سورة يونس وهود المارتين {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو الفرق العام الذي أهلكنا به قومه ولا أعظم منه {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} إلى آخر الدوران فكل الناس الموجودين على وجه الأرض منهم ولهذا سمي أبا البشر الثاني، وقال من قال: إن الطوفان عم الأرض كلها ولم يبق من البشر على سطح البسيطة إلا ذرية نوح عليه السلام، وان المراد واللّه أعلم بالباقين على هذا، هم أهل السفينة، إذ لم يثبت بصورة قطعية أن الطوفان عم على الأرض كلها لاسيما وأنه عليه السلام لم يرسل أولا إلى أهل الأرض كافة ولم يثبت خبر وصول دعوته وهو في جزيرة العرب جزيرة ابن عمر إلى الصين وغيرها من أقطار الأرض ونص الآية لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه في السفينة وأولاده الثلاثة سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والحبشة أما كنعان الذي غرق مع قومه فلم يثبت له نسل وقد وردت أحاديث في أولاده المذكورين أخرجها الترمذي وابن مسعود واحمد والطبراني وابن المنذر وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب وابن مردويه عن أبي هريرة والخطيب في تالي التلخيص والزارعة أيضا، وقدمنا ما يتعلق بها في الآية 73 من سورة يونس والاية 44 من سورة هود المارتين {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ثناء دائما وهو قولنا {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} فهو يتردد على ألسنة الأنبياء والأمم في زمنه إلى قيام الساعة {إِنَّا كَذلِكَ} مثل هذا الجزء الحسن {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ونكرمهم بمثل هذه الكرامة.