فصل: مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية 44 فما بعدها من سورة هود المارة {إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ} لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل أولاد نوح لا يجوز القطع به ولا إنكاره، بل نكل فيه العلم إلى العليم الواحد إذ لا طائل تحته ولا يتعلق فيه حكم ولا حد فمثله كمثل بقية الأخبار والقصص والأمثال، إذ لا آية تنص على ذلك ولا حديثا صحيحا يستند إليه، لهذا فالأحسن في مثله أن لا يصدق بصورة قطعية ولا يكذب تكذيبا محضا، هذا ومن قال إن ضمير شيعته يعود إلى سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم لا مستند له وليس بسديد لأن القاعدة وجوب عود الضمير إلى أقرب مذكور ولا أقرب من نوح ولأن لفظ شيعة لا يقال للمتأخر على المتقدم قال الكميت الأصيفد بن يزيد:
وما لي إلا آل أحمد شيعة ** وما لي إلا مذهب الحق مذهب

ومعلوم أن آل محمد ومذهب الحق متقدمان عليه لا متأخران، ولم يأت ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلم في هذه الآيات فلا محل للقول بذلك، قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام مذكرا رسوله محمد به فكأنه قال واذكر لقومك {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشك في الوحدانية والريب في البعث والمرية في النبوة {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ} استفهام توبيخ وتقريع لأنه رآهم يعبدون الأصنام والكواكب، وقد أراده على ذلك، فأبى وقال: {أَ إِفْكًا آلِهَةً} أي تختلقون أشياء وتسمونها آلهة والإفك أسوء الكذب وآلهة بدل من الإفك {دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} قدم المفعول للاعتناء به، لأن المقصود الاعتراف به أو إنكاره {فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ} أن يفعل بكم إذا لقيتموه غدا وأنتم تعبدون غيره، أخبروني أيها القوم، وقد شاع قوله هذا لهم حتى بلغ ملكهم فأرسل إليه أن غدا عيدنا فاحضر معنا لزيارة الآلهة، لأن هذه التشريفات التي تعارفها الناس في الأعياد والأيام الرسمية قديمة اقتبسها الأواخر عن الأوائل، ولهذا السبب لما طلب فرعون من موسى تعيين يوم للمباراة مع السحرة عين لهم يوم العيد، راجع الآية 59 من سورة طه في ج 1، فلما جاءته دعوة الملك استشعر هطول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم، وأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} تأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك، إذ هو اللائق به عليه السلام، لكنه أوهم قومه أنه يتفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليترتب عليها ما يتوصل به إلى غرضه الذي سيكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} مريض، وأراد بذلك مرض القلب من كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعبادة الأوثان، أي اني لا أستطيع حضور التشريفات.

.مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين:

وكانوا يعتقدون العدوى كالمتوهمين وضعاف اليقين من أهل هذا الزمن، لأن العدوى وإن كانت حقيقة إلا أنها بقدر اللّه وقد حذر الشارع من الاختلاط بالمخدومين لقذارتهم للعدوى، لأن الذي لا توجد فيه قابلية العدوى لا يعدى ولو أكل وشرب ونام مع المريض، وهذا ثابت لا ينكر وحذر أيضا الشارع من الدخول على البلد الذي فيه الطاعون لئلا يلزم من قدر عليه أن يصاب بذلك الوباء، فيقال له لم دخلت القرية الموبوءة حتى أصبت، وحذر أيضا من الخروج منها لئلا يلام هو إذا أصيب غيره بسببه ليس إلا، ويكفيك قول الرسول الأعظم للأعرابي حينما قال له بعد أن سمع منه حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا غول وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد.
إنا نرى الجمل الأجرب يختلط بالإبل فيجربها «من أعدى الأول» تدبر هذا هداك اللّه وأزال وساوس قلبك وما تتخيله من الوهم المقضى إلى الأمراض والعلل لضعف قلوبهم {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} تباعدوا عنه خشية العدوى فتركوه وذهبوا، فأخبروا الملك بمعذرته وبهذه الوسيلة تخلص من اجابة الدعوى لزيارة الأوثان وقدمنا ما يتعلق في مبادئ هذه القصة في الآية 83 من سورة الأنعام المارة تبعا لذكر اللّه إياها هناك كما أتينا على قسم منها هنا للسبب نفسه وسيأتي تمامها في الآية 51 فما بعدها من سورة الأنبياء الآتية إن شاء اللّه القائل: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} بعد أن ولوا عنه وكانوا ذهبوا إلى آلهتهم ووضعوا الأطعمة أمامها لتعود إليها بركتها وليأكلوا بعد رجوعهم من المراسيم المعتادة في الأعياد {فَقالَ} ابراهيم للأوثان {أَ لا تَأْكُلُونَ} من هذا الطعام الموضوع أمامكم لتحل عليه بركتكم كما يزعمون فلم يردوا عليه فقال: {ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} نزلهم بخطابه منزل العاقل تهكما واستهزاء وتقليد القومة، ولما لم ير أحدا عندها لأنهم لم يعودوا من المراسم بعد {فَراغَ} ذهب ومال وأصل الروغان ميل الشخص في جانب وهو يريد غيره ليخدع من خلفه وأقبل متعليا {عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} حتى كسرها كلها وترك الفاس عند كبيرها وخرج {فَأَقْبَلُوا} قومه من المعايدة ومحال مراسم العيد إلى زيارة الأوثان {إِلَيْهِ} المعبد الذي كان عند الآلهة المذكورة {يَزِفُّونَ} الملك والرؤساء ويمشون خلفهم على تؤدة أخذا من زفاف العروس في موكب عظيم، وقيل جاؤوا مسرعين حيث أخبروا بما وقع على الآلهة والأول أولى وان كان اللفظ يحتمل المعنى الآخر لأن زف تأتي بمعنى أسرع أيضا، إلا أن المعنى يأباه لما يأتي في سورة الأنبياء إنهم لم يعلموا من كسرها وانهم سألوا فأخبروا بأنه فتى يقال له ابراهيم، قالوا ولمّا دخلوا على المعبد ورأوا ما هالهم أمره ولما أحضروا ابراهيم وسألوه وقالوا نحن نعبدها ونعظمها وأنت تكسرها ولما ذا فعلت هذا {قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} بأيديكم من الحجارة والأخشاب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} منها ومن غيرها وفي هذه الآية دليل قاطع على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى، وبعد الأخذ والرد معه اتفقوا أن يكون جزاؤه الأحراق بالنار كما سيأتي بيانه في الآية المذكورة آنفا من سورة الأنبياء الآتية بصورة مفصلة {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} النار للشديدة الالتهاب للتي بعضها فوق بعض ففعلوا وأبى اللّه لأن من كان حافظه لا يسلط عليه أحد ولا يقدر على مضرته أحد قال تعالى: {فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ} الأذلين الخائبين المقهورين بجعل كلمتهم السفلى وإبطال كيدهم وبقاء كلمة اللّه تبارك وتعالى كما كانت هي العليا بنصرته عليهم وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وبهذا يعلم أن النار لا تأثير لها إلا بخلق التأثير فيها من اللّه تعالى إذ لو كان لها تأثيرا بنفسها وطبعها لحرقته ولكن المؤثر الحقيقي هو اللّه تعالى وقال إبراهيم لقومه بعد خروجه من النار وإياسه من إيمانهم {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} إلى ما فيه خلاص فأرشده اللّه إلى أرض الشام ثم إلى الأراضي المقدسة ولما استقر به الحال سئل ربه الولد ليكون خليفة له في أرضه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}.
فأجاب اللّه دعاءه بقوله: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} كامل الخلقة والخلق لولاية عهده ولارشاد الخلق لخالقهم كي يعبدوه واعلم أن هذه الآية انطوت على أربع بشارات حمل زوجته وأن الحمل ذكر وأن يبلغ الحلم وأنه يكون حليما ومن عظيم حلمه ما قص اللّه عنه بقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} وصار يقدر على المشي والشغل {قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى} وهذه المشورة من إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل ليعلم ما عنده فيما نزل به من البلاء ليختبر صبره على أمر اللّه وعزيمته على طاعته لا يرجع لأمره ورأيه، لأنه جازم في تنفيذ ما أمر به في رؤيا لان رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق، فإذا رأوا شيئا فعلوه، وإنما كان الأمر بالمنام لأنه في نهاية المشقة وغاية الشدة على الذابح والمذبوح فكان كالتوطئة {قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} على تنفيذ أمر اللّه وإنما علق قوله بالمشيئة على سبيل التبرك لا غير، إذ لا حول عن المصيبة إلا بعصمة اللّه ولا قوة على الصبر عليها إلا بتوفيق اللّه.
واعلم أن هذه الآية الوحيدة التي استدل بها بعض الأصحاب والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق، إلا أن الآيات غيرها تدل على أنه إسماعيل عليهما السلام وهو الصحيح كما سيأتي في القصة.
هذا وأن بعض الناس أنكر أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا الكون غير الضياء في المواقع التي تطلع عليها، وهذا فيه تفريط إذ بعضهم زعم أن لها تأثيرا في السعد والنحس وسعة العيش وضيقه وطول العمر وقصره، وهذا فيه إفراط، وبعضهم قال إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض.
ومزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله، إذ تكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سودا وخضرا كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله حيث تكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيضا وشعورهم شقرا كالترك والصقالبة، ولها أيضا تأثير في نمو النبات واشتداده ونضج ثمره وتلوينه وطعمه بإشراق الشمس والقمر وبعض الكواكب، وهذا مما يدرك حسا ولا يكاد ينكر، ولا بأس في نسبة هذا إلى الكواكب ولكن على معنى أن اللّه تعالى أودع فيها هذه القوة المؤثرة لا بطبعها ولا بتأثيرها بإرادة نفسها كالإحراق بالنار والارواء للماء، فإن اللّه تعالى لو لم يجعل فيهما تلك القوى لما حصل في النار إحراق ولا من الماء إرواء كما علمت في حال إبراهيم عليه السلام، إذ لم تؤثر فيه النار كما أنها لم تؤثر في السندل الذي يفرخ فيها، وكذلك السكين لا تقطع إلا بتأثير اللّه تعالى ولذلك لم تذبح إسماعيل بعد معالجة أبيه له في ذبحه، وهذا قول وسط معتدل وخير الأمور أوسطها وعلى هذا السلف الصالح، وقال به الشيخ إبراهيم الكوراني في جمع الأسباب والمسببات، وعليه بعض الماتريدية، هذا وأن المنجمين يكذبون وإن صدقوا في بعض الأحيان على ما جاء في الحديث الشريف وقد دلت عليه التجارب على كذبهم أكثر من صدقهم، فمن كذبهم ما أجمع عليه حذافهم سنة سبع وثلاثين بأن عليا كرم اللّه وجهه حينما توجه لصفين يقتل ويقهر جيشه وبالعكس فقد انتصر ولم يتخلص منه أهل الشام إلا بالحيلة التي دبرها لهم عمرو بن العاص حينما حملهم على حمل المصاحف على رءوس الرماح وقولهم بلسان واحد إنا الرجوع إلى حكم اللّه وهي كلمة حق أراد بها بطلا حتى أقسر علي على قبول التحكيم وكان ما كان، وكذلك أجمعوا على قهره عليه السلام لما خرج لقتال الخوارج حيث كان القمر بالعقرب، لأنهم يزعمون أنها منزلة نحس لا يقع فيها إلا الشر، فقال نخرج ثقة باللّه وتوكلا عليه، فانتصر انتصارا باهرا وكذبهم اللّه.
وأجمعوا أيضا سنة ست وسنين على غلبة عبد اللّه بن زياد على المختار بن أبي عبد خليفة إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار في أرض نصيبين ومعه سبعة آلاف فقهره وقتله وقتل من عسكره ثلاثه وسبعين ألفا ولم يقتل من أصحاب المختار سوى مائة نسمة، وأجمعوا أيضا يوم أسّست بغداد سنة مائة وست وأربعين على أن طالعها يقضي أن لا يموت فيها خليفة فقتل فيها الأمين والواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم، وهناك أمور أخر في كذبهم لا تحصى حتى أنهم سنة 1920 ميلادية أشاعوا بأنه سيطلع نجم مذنب عظيم قد يلطم ذنبه كرة الأرض فيخرب قسما عظيما منها، ولم يقع شيء من ذلك ولما قتل الأمين في شارع باب الأنبار قال بعض الشعراء في تكذيبهم:
كذب المنجم في مقالته التي ** كان ادعاها في بنا بغدان

قتل الأمين بها لعمري يقتضي ** تكذيبهم في سائر الحسبان

ومن هذا القبيل الإبرة الدالة على حدوث الأمطار والهواء والعواصف وغيرها، فإنها قد تختلف أيضا باختلاف الجوّ، فلا يقع ما تشير إليه، لأن تبدل حالة الجو التي هي بيد مالك الملك ومقلّب الأحول تحول دون ذلك إذ لا يستطيع مخترع الأبرة وغيره والعالم أجمع أن يبقى الجو على حالته حينما أشارت إليه الأبرة حتى يقع ما أشارت به، بل إذا أبقاها اللّه تعالى يقع وإلا فلا، وهذا محسوس مشاهد.
واعلم أن ما احتج به أهل الهيئة من أن اللّه تبارك وتعالى قد فخم من قدر النجوم يحلفه بها تارة ومدحه لها أخرى في القرآن العظيم لا يفهم منه أن اللّه تعالى إنما عدد ذكرها في مواضع كثيرة في القرآن لأن لها تأثيرا، كلّا، بل لعظمها وكونها دالة على إلهيته، واللّه تعالى ذكر الأنبياء في القرآن أكثر من غيرهم، فهل يقال إنما ذكرهم لما لهم من التأثير بذواتهم المقدسة، كلا وانما لعظم مقامهم عنده وتعظيما لشأنهم عند أقوامهم، لأنهم الواسطة لهداية البشر حتى أنهم مع جلالة قدرهم لا يملكون الشفاعة لأنفسهم وأولادهم وأزواجهم إلا بإذن اللّه القائل {فَلَمَّا أَسْلَما} خضع الأب وابنه لأمر اللّه وانقادا لتنفيذه وعزما على اجرائه عزما جازما باشره الأب {وَتَلَّهُ} أي جرّه {لِلْجَبِينِ} بأن صرع الأب ابنه على الأرض وألصق جبينه بها ووضع السكين على حلقه وأمرها إمرارا قاسيا يقصد ذبحه دون تعذيبه بامرارها كثيرا، ولكنها لم تذبح رغما لشدة حزّها على محل الذبح منه بقوة وجلادة إطاعة لأمر اللّه، وكان قبل حدها حرار حتى رآها أنها تقطع حلقوم الجمل بامرارها عليه مرة واحدة، وهذا دليل قاطع على أن المؤثر الحقيقي في كل شيء هو اللّه تعالى لأن السكين الحادة لا يعقل أنها لا تقطع اللحم كما أن النار لا يعقل أنها لا تحرقه، ولكن اللّه تعالى إذا لم يضع فيها قوة الذبح لا تذبح وكذلك لا تحرق ولما رأى الخليل عليه السلام عدم تمكنه من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله اللّه لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان اللّه العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك، وأظهره ليطلع عليه الناس، لأنه عالم بما يقع منهما، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ} كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به {إِنَّا كَذلِكَ} مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أمثالك وأمثال ابنك، قال تعالى: {إِنَّ هذا} الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} في الجثة والقدر بنسبة المفدى {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ} من اللّه وملائكته ورسله وعباده كافة {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الحسن الدائم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في الدنيا والآخرة.
{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الكاملي الإيمان {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.

.مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة:

وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية، لأنه بعد أن قص اللّه تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر إسحق كما ستقف عليه بعد قليل {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ} ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما} ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام {مُحْسِنٌ} لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء {وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} بين ظلمه بتعديه حدود اللّه أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر.
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى اللّه عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله صلى اللّه عليه وسلم من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق اللّه من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح اللّه فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من اللّه أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من اللّه حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر اللّه وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها بالصبر والاستسلام، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر اللّه، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح، قالوا وقد ضرب اللّه تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على اللّه، إلا أن الحق^ الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر اللّه، والحال لا يوجد شيء من ذلك، لأن طاعة اللّه عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين، ولكن اللّه تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية 148 من سورة الأنعام المارة، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها، فعلم اللّه كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام.