فصل: تفسير الآيات (1- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (1- 10):

قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} أي الذي له الكمال المطلق فلا يدنو من جنابه نقص {الرحمن} الذي منٍّ برحمة العدل في الدارين {الرحيم} الذي يمنّ على من يريد بالطاعة بالثواب والمتاب لإسقاط العقاب.
لما كان الإنفراد بالملكوت لا يكون إلا مع الوحدانية بالذات، وفي ذلك استحقاق الاختصاص بالإلهية، وكان ذلك- مع أنه بحيث لا يخفى على ذي لب- عندهم في غاية البعد، ولذلك لا يسلمون ما يتعلق بالملكوت وينكرونه غاية الإنكار، ناسب أن يقسم عليه.
ولما كان من البلاغة أن يناسب بين القسم والمقسم عليه، وكان الاصطفاف دالًا على اتحاد القصد كما في صفوف القتال والصلاة، وكان الملائكة لا قصد لهم إلا الله من غير عائق عن ذلك فكانوا أحق الخلق بالاصطفاف، تارة للصلاة، وتارة للتسبيح والتقديس، وتارة لتدبير الأرزاق، وتارة لتعذيب أهل الشقاق- إلى غير ذلك من الأمور التي لا تسعها الصدور، وكانوا بعد زجرة الإحياء المصرح بهما في السورة الماضية ثم زجرتي الصعق والإفاقة الآتيتين في الزمر حين تشقق السماء بالغمام وتكون وردة كالدهان، وتنفطر بسطوة المليك الديان، ويتكرر ما فيها من أجرام ومعان، تنزل ملائكة كل سماء فتصير صفًا مستديرًا، ملائكة الأولى حول أهل الأرض، وملائكة الثانية حول ملائكة الأولى وهكذا، ثم يصيرون إذا قيل {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] فماج العباد بعضهم في بعض من شدة الزحام، وطول القيام، كلما مالوا على جهة من جهاتهم زجروهم زجرًا ردوهم به عن النفوذ، مع أن انتظام المدبرات الناشئ عن اصطفافهم في التدبير في طاعة الملك القدير دال على الوحدانية.
قال تعالى: {والصافات} أي الجماعات من الملائكة والمصلين والمجاهدين المكملين أنفسهم بالاصطفاف في الطاعة، فهو صفة لموصوف محذوف مؤنث اللفظ، وعدل عن أن يقول: الصافين القاصر على الذكور العقلاء ليشمل الجماعات من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش وغيرها، إشارة إلى أنه لا يؤلف بين شيء منها ليتحد قصده إلا واحد قهار، وأنه ما اتحد قصد شيء منها إلا استوى صفة، ولا اعتدل صفة إلا اتحد زجره وهو صياحه، ولا اتحد زجره إلا اتحد ما يذكره بصوته، ولا اتحد منه ذلك إلا نجح قصده واتضح رشده بدليل المشاهدة، وأدلها أن الصحابة رضى الله عنه م لما اتحد قصدهم في إعلاء الدين وهم أضعف الأمم وأقلها عددًا لم يقم لهم جمع من الناس الذين لا نسبة لهم إليهم في قوة ولا كثرة، ولم ينقص صفهم، وجرح القلوب وأبارها زجرهم، وشرح الصدور وأنارها ذكرهم، كما أشار إليه تعالى آخر هذه السورة بقوله: {وإن جندنا لهم الغالبون} وكذا غير الآدميين من الحيوانات كما يرى من الفار والجراد إذا أراد الله تعالى اتحاد قصده في شيء فإنه يغلب فيه من يغالبه، ويقهر من يقاويه أو يقالبه، فبان أن الخير كله ما أريد بالقسم، واتحد جدًا بالمقسم عليه والتأم والتحم به أيّ التحام، وانتظم معناهما كل الانتظام.
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال: {صفًا} وهو ترتيب الجمع على خط.
ولما كان توحد القصد موجبًا للقوة المهيئة للزجر، وكان تكميل الغير مسببًا عن تكميل النفس، ومرتبًا عليه، وأشرف منه لو تجرد عن التكميل، وكان التكميل إنما يتم أمره ويعظم أثره مع الهيبة «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» قال عاطفًا بالفاء: {فالزاجرات} أي المنتهرات عقب الصف كل من خرج عن أمر الله {زجرًا} أي انتهارًا بالمواعظ وغيرها تكميلًا لغيرهم.
ولما كانت الإفاضة مسببة عن حسن التلقي المسبب عن تفريغ البال المسبب عن هيبة المفيد، وكان فيض التلاوة أعظم الفيض قال: {فالتاليات} أي التابعات استدلالًا على قولهم وفعلهم وتمهيدًا لعذرهم وتشريفًا لقدرهم، وتكميلًا لغيرهم: {ذكرًا} أي موعظة وتشريفًا وتذكيرًا من ذكر ربهم إفاضة على غيرهم من روح العلم وإدغام التاء في الصاد والزاي والذال إشارة إلى أن ذلك مع هوله وعظمه قد يخفى عن غير من يريد الله إطلاعه عليه، فقد قطعت الصيحة قلوب الكفرة من ثمود وغيرهم، ولم تؤثر فيمن آمن منهم، وقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي به من القرآن والصحابة رضى الله عنه م حوله لا يستمعون شيئًا منه- والله الموفق {إن إلهكم} أي الذي اتخذتم من دونه آلهة {لواحد} أي فإن التفرق لا يأتي بخير، لما يصحبه من العجز البعيد جدًا عن الكمال الذي لا تكون الإلهية أصلًا إلا معه، فإليه لا إلى غيره ترجعون ليفصل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، وهو الذي أنزل هذا الكتاب بعزته ورحمته وحرسه من اللبس وغيره بما سيذكر من كبريائه وعظمته ولو لم يكن واحدًا لاختل أمر هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، وما يترتب عليها، فاختل نظام هذا الوجود الذي نشاهده كما نشاهد في أحوال الممالك عند اختلاف الملوك في تغيير العوائد ونسخ الشرائع التي كان من قبلها أطدها وجميع ما له من الآثار والخصائص، ونحن نشاهد هذا الوجود على ما أحكمه سبحانه وتعالى لا يتغير شيء منه عن حاله الذي حده له، فعلمنا أنه واحد لا محالة متفرد بالعظمة، لا كفوء له من غير شك.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد وما يهتدي الموفق باعتبار بعضه، ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك بجملته لواحد، وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم علة وحدانيته فقال تعالى: {والصافات} الآية إلى قوله تعالى: {إن إلهكم لواحد} إلى قوله: {ورب المشارق} ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى: {إنا رأينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} إلى قوله: {شهاب ثاقب} ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه {إنا خلقناهم من طين لازب} ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا، والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب، وأخذ كل بذنبه، وتخليص رسل الله وحزبه، وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائهم وقربه، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعتدين إلى ختم السورة- انتهى.
ولما ثبت أنه واحد، أنتج وصفه بقوله: {رب} أي موجد ومالك وملك ومدبر {السماوات} أي الأجرام العالية {والأرض} أي الأجرام السافلة {وما بينهما} أي من الفضاء المشحون من المرافق والمعاون بما تعجز عن عدة القوى، وهذا- مع كونه نتيجة ما مضى- يصلح أن يكون دليلًا عليه لما أشار إليه من انتظام التدبير الذي لا يتهيأ مع التعدد كما أن المقسم به هنا إشارة إلى دليل الوحدانية أيضًا بكونه على نظام واحد دائمًا في الطاعة التي أشير إليها بالصف والزجر والتلاوة، فسبحان من جعل هذا القرآن معجز النظام، بديع الشأن بعيد المرام.
ولما كان السياق للإفاضة بالتلاوة وغيرها، وكانت جهة الشروق جهة الإفاضة بالتجلي الموجد للخفايا الموجب للتنزه عن النقائص، وكان الجميع أليق بالاصطاف الناظر إلى القهر بالأئتلاف قال: {ورب المشارق} أي الثلاثمائة والستين التي تجلى عليكم كل يوم فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة على كر الدهور والأعوام، والشهور والأيام، على نظام لا ينحل، ومسير لا يتغير ولا يختل، وذكرها يدل قطعًا على المغارب لأنها تختلف بها، وأعاد الصفة معها تنبيهًا على وضوح دلاتها بما فيها مما السياق من الاصطفاف الدال على حسن الائتلاف، وللدلالة على البعث بالآيات بعد الغياب.
ولما كانت المشارق تقتضي الفيض والإظهار، أتبع ذلك نتيجته بما من شأنه الشروق والغروب ولو بمجرد الخفاء والظهور، فقال مؤكدًا مع لفت الكلام إلى التكلم في مظهر العظمة تنبيهًا على أن فعلهم فعل من ينكر ما للنجوم من الزينة وما تدل عليه من عظمته سبحانه وتعالى، وفخم التعبير عن الزينة بتضعيف الفعل لمثل ذلك: {إنا زينا} أي بعظمتنا التي لا تدانى {السماء} ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات، وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال: {الدنيا} أي التي هي أدنى السماوات إليكم.
ولما أشير إلى أن الصف زينة في الباطن باتحاد القصد كما أنه زينة في الظاهر بحسن الشكل وبديع الرصف، زيد في التنبيه على ذلك بإعادة ما فهم من {زينا} في قوله: {بزينة الكواكب} أي بالزينة التي للنجوم النيرة البراقة المتوقدة الثابتة في محالها- قارة أو مارة- المرصعة في السماء ترصيع المسامير الزاهرة كزهر النور المبثوث في خضرة الرياض الناضرة، فهي مع عدم التنوين والخفض إضافة بيانية كثوب خز، ومن نوّن الزينة فإن خفض الكواكب فعلى البدل، أي بالكواكب التي هي زينة، وإن نصب فعلى المدح بتقدير أعني، أو على أنه بدل اشتمال من السماء، أي كواكبها، إما بكونها فيما دونها من الجو فبظن أنها فيها، أو يكونها فيها من جانبها الذي يلينا، أو بكونها تشف عنها وإن كان بعضها فيما هو أعلى منها، وزينتها انتظامها وارتسامها على هذا النظم البديع في أشكال متنوعة وصور مستبدعة ما بين صغار وكبار، منها ثوابت ومنا سيارة وشوارق وغوارب- إلى غير ذلك من الهيئات التي لا تحصى، ولا حد لها عند العباد العجزة فيستقصى.
ولما كان كون الشيء الواحد لأشياء متعددة أدل على القدرة وأظهر في العظمة، قال دالًا بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر على مقدر يدل على أن الزينة بالنجوم أمر مقصود لا اتفاقي: {وحفظًا} أي زيناها بها للزينة وللحفظ {من كل شيطان} أي بعيد عن الخير محترق.
ولما كان القصد التعميم في الحفظ من كل عاتٍ سواءٍ كان بالغًا في العتو أو لا قال: {مارد} أي مجرد عن الخير عاتٍ في كل شر سواء كان بالغًا في ذلك أقصى الغايات أو كان في أدنى الدرجات كضارب وضراب.
ولما كان المراد في سورتي النساء والحج ذم الكفرة بفعل ما ليس في كونه شرًا لبس، وبوضع النفس باتباع ما لا شك في دناءته ببعده عن الخير بعد الإخفاء به، عبر بالمريد للمبالغة، وكما أنه حرس السماء المحسوسة بما ذكره سبحانه وتعالى فكذلك زين عز وجل قلوب الأولياء التي هي كالسماء لأراضي أجسامهم بنجوم المعارف، فإذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فرشقته شهب أحوالهم ومعارفهم وأقوالهم.
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته، استأنف قولًا: {لا يسمعون} أي الشياطين المفهومون من كل شيطان، لا يتجدد لهم سمع أصلًا، قال ابن الجوزي: قال الفراء: {لا} هنا كقوله: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به} ويصلح في {لا} على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت في شيء لا ينفلت- انتهى.
ويؤخذ من التسوير بكل ثم الجمع نظرًا إلى المعنى، والإفراد لضمير الخاطف وللخطفة أنهم معزولون عن السمع جمعهم ومفردهم من الجمع، وأن الخطف يكون- إن اتفق- في الواحد لا الجمع ومن الواحد لا الجمع، وللكلمة وما حكمها لا أكثر، وإليه يشير حديث الصحيح «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني» وأكد بعدهم بإثبات حرف الغاية، فقال مضمنًا {سمع} بعد قصره معنى انتهى أو أصغى ليكون المعنى: لا ينتهي سمعهم أو تسمعهم أو إصغاؤهم {إلى الملإ} أي الجمع العظيم الشريف، وأوضحت هذا المعنى قراءة من شدد السين والميم بمعنى يتسمعون، أي بنوع حيلة، تسمعًا منتهيًا إلى ذلك، وهو يفهم أنهم يتسمعون، ولكن لا ينتهي تسمعهم إلى ما ذكر، بما أشار إليه الإدغام، ويشير أيضًا إلى أنهم يجتهدون في إخفاء أمرهم، وأفرد الوصف دلالة أيضًا على أن العطف يكون من واحد لا من جمع فقال: {الأعلى} أي مكانًا ومكانة بحيث يلمؤون العيون بهجة والصدور هيبة.
ولما كان التقدير: لأنهم يطردون طردًا قويًا، دل عليه بالعاطف في قوله: {ويقذفون} أي الشياطين يرمون رميًا وحيًا شديدًا يطردون به، وبني للمفعول لأن النافع قذفهم لا تعيين قاذفهم، مع أنه أدل على القدرة الإلهية عزت وجلت {من كل جانب} أي من جوانب السماوات بالشهب إذا قصدوا السماع بالاستراق {دحورًا} أي قذفًا يردهم مطرودين صاغرين مبعدين، فهو تأكيد للقذف بالمعنى أو مفعول له أو حال.
ولما كان هذا ربما سببًا لأن يظن ظان أنهم غير مقدور عليهم في غير هذه الحالة بغير هذا النوع أخبر أنهم في قبضته، وإنما جعل حالهم هذا فتنة لمن أراد من عباده، فقال معبرًا باللام التي يعبر بها غالبًا عن النافع تهكمًا بهم: {ولهم عذاب} أي في الدنيا بهذا وبغيره، وفي الآخرة يوم الجمع الأكبر {واصب} أي دائم ممرض موجع كثير الإيجاع مواظب على ذلك ثابت عليه وإن افترق الدوامان في الاتصال والعظم والشدة والألم.
ولما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز، استثنى من فاعل {يسمعون} قوله: {إلا من خطف} ودل على قلة ذلك بعد إفراد الضمير بقوله: {الخطفة} أي اختلس الكلمة أو أكثر، مرة من المرات منهم، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله: {فأتبعه} مع تعديه بدونها، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف {شهاب} أي شعلة النار من الكوكب أو غيره {ثاقب} أي يثقب ما صادفه من جني وغيره وإن كان الجني من نار فإنه ليس نارًا خالصة، وعلى التنزل فربما كان الشيء الواحد أنواعًا بعضها أقوى من بعض، فيؤثر أقواه في أضعفه كالحديد، وتارة يخطئ الجني وتارة يصيبه، وإذا أصابه فتارة يحرقه فيتلفه وتارة يضعفه. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{والصافات صفًا} وما بعدهما مدغمًا: حمزة وأبو عمرو غير عباس {بزينة} منونًا: حمزة وعاصم غير المفضل {الكواكب} بالنصب: أبو بكر وحماد. الباقون بالجر {لا يسمعون} بتشديد السين والميم وأصله {يتسمعون} حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون: بسكون السين وتخفيف الميم.
{بل عجبت} بالضم: حمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالفتح على الخطاب {آيذا} بالمد والياء {إنا} بهمزة واحدة مكسورة: يزيد وقالون وزيد. الباقون مثل التي في الرعد وأما الثانية فمثل التي في الرعد {أو آباؤنا} مثل {أو أمن أهل القرى} [الأعراف: 98] وكذلك في الواقعة {لا تناصرون} بالتشديد البزي وابن فليح {أئنا} {أئنك} {أئفكا} مثل {ائنكم} في الأنعام {ينزفون} بضم الياء وكسر الزاي: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بفتح الزاي {لترديني} بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.

.الوقوف:

{صفا} o لا {زجرًا} o لا {لواحد} o ط {المشارق} o ط {الكواكب} o لا {مارد} o ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث يجيء في التفسير {واصب} o لا {ثاقب} o ج {خلقنا} ط {لازب} o {ويسخرون} o ص {لا يذكرون} o ص {يستسخرون} o ص {مبين} o ج {لمبعوثون} o لا {الأوّلون} o ط {داخرون} o {ينظرون} o {الدين} o {تكذبون} o {يعبدون} o لا {الجحيم} o {مسؤولون} o لا لأن المسؤول عنه قوله: {ما لكم لا تناصرون} o {مستسلمون} o {يتساءلون} o {اليمين} o {مؤمنين} o ج {سلطان} ج للعدول مع اتفاق الجملتين {طاغين} o {لذائقون} o {غاوين} o {مشتركون} o {بالمجرمين} o {يستكبرون} o {مجنون} o ط {المرسلين} o {الأليم}{تعملون} o لا {المخلصين} o {معلوم} o {فواكه} ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف {مكرمون} o لا {النعيم} o لا {متقابلين} ج {معين} o لا {للشارين} o ج لأن ما بعده يصلح وصفًا واستئنافًا {ينزفون} o {عين} ط {مكنون} ج {يتساءلون} o {قرين} o {المصدّقين} o {لمدينون} o {مطلعون} o {الجحيم} o {لتردين} o {المحضرين} o {بميتين} o لا {بمعذبين} o {العظيم} o {العالمون} o {الزقوم} o {للظالمين} o {الجحيم} o لا لأن ما بعده صفة لشجرة {الشياطين} o {البطون} o لا لأن ثم لترتيب الأخبار {حميم} o {الجحيم} o ج {ضالين} o لا للعطف مع اتصال المعنى {يهرعون} o {الأوّلين} o {منذرين} o {المنذرين} o لا {المخلصين} o {المجيبون} o ز {العظيم} o ز {الباقين} o ز {في الآخرين} o لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية {العالمين} o {المحسنين} o {المؤمنين} o {الآخرين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو وحمزة {والصافات صَفَّا} بإدغام التاء فيما يليه، وكذلك في قوله: {فالزجرات زَجْرًا فالتاليات ذِكْرًا} والباقون بالإظهار، وقال الواحدي رحمه الله: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس، ولامدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير، وإدغام الأنقص في الأزيد حسن، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتًا في الأنقص، وأيضًا إدغام التاء في الزاي في قوله: {فالزجرات زَجْرًا} حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد، وأيضًا حسن إدغام التاء في الذي في قوله: {فالتاليات ذِكْرًا} لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، وأما من قرأ بالإظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج، والله أعلم.
المسألة الثانية:
في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن يتكون صفات ثلاثة لموصوف واحد، ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة، أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول: أنها صفات الملائكة، وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفًا.
إما في السموات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} [الصافات 165] وقيل إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم، ويحتمل أيضًا أن يقال معنى كونهم صفوفًا أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف.
وأما قوله: {فالزجرات زَجْرًا} فقال الليث: يقال زجرت البعير فأنا أزجره زجرًا إذا حثثته ليمضي، وزجرت فلانًا عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى، فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وللإنسان كالنهي، إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول: قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني: المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجرًا الثالث: لعل الملائكة أيضًا يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وأقول قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله، ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام، واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها وقوله: {فالتاليات ذِكْرًا} إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام إذا عرفت هذا فقوله: {والصافات صَفَّا} إشارة إلى وقوفها صفًا صفًا في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية وقوله تعالى: {فالزجرات زَجْرًا} إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل، وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ونظيره قوله تعالى: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 192، 193] وقوله تعالى: {فالملقيات ذِكْرًا} [المرسلات: 5] إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تامًا وفوق التام والمراد بكونه تامًا أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولًا بالفعل والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره، ومن المعلوم أن كونه كاملًا في ذاته مقدم على كونه مكملًا لغيره، إذا عرفت هذا فقوله: {والصافات صَفَّا} إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة وقوله تعالى: {فالزجرات زَجْرًا} إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية وقوله تعالى: {فالتاليات ذِكْرًا} إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية، فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة، قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة، والجواب من وجهين الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني: أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي، أما التأنيث في اللفظ فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه الثاني: أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله تعالى الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين الأول: أن قوله تعالى: {والصافات صَفَّا} المراد الصفوف الحاصلة عند أداء الصلوات بالجماعة وقوله: {فالزجرات زَجْرًا} إشارة إلى قراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة وقوله: {فالتاليات ذِكْرًا} إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل: {فالزجرات زَجْرًا} إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت، روى أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا؟ فقال: المعبود سميع عليم وسأل عمر: لم تقرأ هكذا؟ فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان الوجه الثاني: في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله: {والصافات صَفَّا} الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى والمراد من قوله: {فالزجرات زَجْرًا} اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات، والمراد من قوله تعالى: {فالتاليات ذِكْرًا} اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله الوجه الثالث: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله: {والصافات صَفَّا} المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] وأما {الزاجرات زجرًا} فالزجرة والصيحة سواء، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل، وأما {التاليات ذكرًا} فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس الوجه الرابع: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله: {والصافات صفًا} المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائل النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة، وهذه الآيات مرتبة ترتيبًا لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصًا واقفين في صفوف معينة قولوه: {فالزجرات زَجْرًا} المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله: {فالتاليات ذِكْرًا} المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقال: {يس والقرءان الحكيم} [يس 1، 2] قيل الحكيم بمعنى الحاكم فهذه جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل المراد بقوله: {والصافات صَفَّا} الطير من قوله تعالى: {والطير صافات} [النور: 41] {والزاجرات} كل ما زجر عن معاصي الله {والتاليات} كل ما يتلى من كتاب الله وأقول فيه وجه آخر وهو أن مخلوقات الله إما جسمانية وإما روحانية، أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير ألبتة، فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء، والهواء محفوف بالنار، ثم هذه الأربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى، وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله: {فالزجرات زَجْرًا} فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك، والثاني الإدراك والمعرفة والاستغراق في معرفة الله تعالى والثناء عليه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فالتاليات ذِكْرًا} ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال: {والصافات صَفَّا} ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه، فهذه احتمالات خطرت بالبال، والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله.