فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
الفرق بين قولك سمعت حديث فلان، وبين قولك سمعت إلى حديثه، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك.
المسألة الثالثة:
في قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} قولان الأول: وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] وكما قال: {رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10] قال صاحب الكشاف: حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده.
أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني: وهو الذي اختاره صاحب الكشاف أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب، مدحورون عن ذلك المقصود.
المسألة الرابعة:
الملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات.
وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى: أنهم لا يسمعون الثانية: أنهم يقذفون من كل جانب دحورًا وفيه أبحاث:
الأول: قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله: {اخرج مِنْهَا مَذْءومًا مَّدْحُورًا} [الأعراف: 18] قال المبرد الدحور أشد الصغار والذل وقال ابن قتيبة دحرته دحرًا ودحورًا أي دفعته وطردته.
البحث الثاني: في انتصاب قوله: {دُحُورًا} وجوه:
الأول: أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحورًا، ودل على الفعل قوله تعالى: {وَيَقْذِفُونَ}.
الثاني: التقدير ويقذفون للدحور ثم حذف اللام.
الثالث: قال مجاهد دحورًا مطرودين، فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور.
البحث الثالث: قرأ أبو عبد الرحمن السلمي {دحورًا} بفتح الدال قال الفراء كأنه قال يقذفون يدحرون بما يدحر، ثم قال ولست أشتهي الفتح، لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء كما تقول يقذفون بالحجارة ولا تقول يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر:
تعال اللحم للأضياف نيئًا

أي تعالى باللحم.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} والمعنى أنهم مرجومون بالشهب وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام، وذكرنا تفسير الواصب في سورة النحل عند قوله تعالى: {وله الدين واصبًا} [النحل: 52] قالوا كلهم إنه الدائم، قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} ذكرنا معنى الخطف في سورة الحج قال الزجاج وهو أخذ الشيء بسرعة، وأصل خطف اختطف قال صاحب الكشاف {مِنْ} في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة {فَأَتْبَعَهُ} يعني لحقه وأصابه يقال تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وأتبعه إذا لحقه وأصله من قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} [الأعراف: 175] وقد مر تفسيره وقوله تعالى: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال الحسن ثاقب أي مضيء وأقول سمي ثاقبًا لأنه يثقب بنوره الهواء، قال ابن عباس في تفسير قوله: {والنجم الثاقب} [الطارق: 3] قال: إنه رجل سمي بذلك لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)}.
أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته واختلف الناس في معناها، فقال ابن مسعود ومسروق وقتادة: هي الملائكة التي تصف في السماء في عبادة الله وذكره صفوفًا وقالت فرقة: أراد كل من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة، والتقدير والجماعات الصافات.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها، ومما أقسم به عز وجل {الزاجرات} واختلف الناس في معناها أيضًا فقال مجاهد والسدي: هي الملائكة التي تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وقال قتادة: {الزاجرات} هي آيات القرآن المتضمنة النواهي الشرعية، وقوله: {فالتاليات ذكرًا} معناه القارئات، وقال مجاهد والسدي: أراد الملائكة التي تتلو ذكره، وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال، وهي قراءة ابن مسعود ومسروق والأعمش، وقرأ الباقون وجمهور الناس بالإظهار، وكذلك في كلها، قال أبو حاتم: والبيان اختيارنا وأما الحاملات وقرا والجاريات يسرًا، فلا يجوز فيها الإدغام لبعد التاء من الحرفين، ثم بين تعالى المقسم عليه أنه توحيده وأنه واحد أي متحد في جميع الجهات التي ينظر فيها المفكر، ثم وصف تعالى نفسه بربوبيته جميع المخلوقات، وذكر {المشارق} لأنها مطالع الأنوار والعيون بها أكلف، وفي ذكرها غنية عن ذكر المغارب إذ معادلتها لها مفهومة عند كل ذي لب، وأراد تعالى مشارق الشمس وهي مائة وثمانون في السنة فيما يزعمون من أطول أيام السنة إلى أقصرها، ثم أخبر تعالى عن قدرته من تزيين السماء بالكواكب وانتظم في ذلك التزيين أن جعلها {حفظًا} وحرزًا من الشياطين المردة وهم مسترقو السمع، وقرأ جمهور القراء {بزينةِ الكواكب} بإضافة الزينة إلى {الكواكب} وقرأ حمزة وحفص عن عاصم {بزينةٍ الكواكبِ} بتنوين {زينة} وخفض {الكواكبِ} على البدل من الزينة وهي قراءة ابن مسعود ومسروق بخلاف عنه وأبي زرعة بن عمر وابن جرير وابن وثاب وطلحة، وقرأ أبو بكر عن عاصم {بزينةٍ} بالتنوين {الكواكبَ} بالنصب وهي قراءة ابن وثاب وأبي عمرو والأعمش ومسروق، وهذا في الإعراب نحو قوله عز وجل: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متبربة} [البلد: 14].
وحكى الزهراوي قراءة {بزينةٍ} بالتنوين {الكواكبُ} بالرفع، و{المارد} المتجرد للشر ومنه شجرة مرداء لا ورق عليها، ومنه الأمرد وخص تعالى السماء الدنيا بالذكر لأنها التي تباشر بأبصارنا وأيضًا فالحفظ من الشيطان إنما هو فيه وحدها، {وحفظًا} نصب على المصدر وقيل مفعول من أجله والواو زائدة.
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)}.
{الملأ الأعلى} أهل السماء الدنيا فما فوقها، ويسمى الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل، والضمير في {يسمعون} للشياطين، وقرأ جمهور القراء والناس {يسْمعون} بسكون السين وتخفيف الميم، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش {لا يسّمّعون} بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون فينتفي على القراءة الأولى سمعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى: {إنهم عن السمع لمعزولون} [الشعراء: 212] وينتفي على القراءة الآخرة أن يقع منهم استماع أو سماع، وظاهر الأحاديث أنهم يستمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون وإن سمع منهم أحد شيئًا لم يفلت الشهاب قبل أن يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته، لأن من وقت محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا، وكان الرجم في الجاهلية أخف، وروي في هذا المعنى أحاديث صحاح مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحدًا فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى الأمر في الأمور في الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم ذلك الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة فلم يفلت شيطان سمع بتة، ويروى أنها لا تسمع شيئًا الآن، والكواكب والراجمة هي التي يراها الناس تنقض منقضية، قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، {ويقذفون} معناه ويرجمون، و{الدحور} الإصغار والإهانة لأن الدحر الدفع بعنف، وقال مجاهد مطرودين، وقرأ الجمهور {دُحورًا} بضم الدال، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {دَحورًا} بفتح الدال، و{الواصب} الدائم، قاله مجاهد وقتادة وعكرمة، وقال السدي وأبو صالح {الواصب} الموجع، ومنه الوصب، والمعنى هذه الحال الغالبة على جميع الشياطين، إلا من شذ فخطف خبرًا ونبًا {فأتبعه شهاب} فأحرقه، وقرأ جمهور القراء {خَطِف} بفتح الخاء وكسر الطاء وتخفيفها، وقرأ الحسن وقتادة {خِطِّف} بكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، قال أبو حاتم: يقال إنها لغة بكر بن وائل وتميم بن مر، وروي عن ابن عباس {خِطِف} بكسر الخاء والطاء مخففة، و{الثاقب} النافذ بضوئه وشعاعه المنير، قاله قتادة والسدي وابن زيد، وحسب ثاقب إذا كان سنيًا منيرًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْرًا فالتاليات ذِكْرًا} هذه قراءة أكثر القرّاء.
وقرأ حمزة بالإدغام فيهنّ.
وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها.
النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات: إحداهن أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الذال، ولا من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال الظاء والثاء.
والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى.
والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة؛ نحو دابة وشابة.
ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف.
{وَالصَّافَّاتِ} قسم؛ الواو بدل من الباء.
والمعنى برب الصَّافَّات و{الزَّاجِرَاتِ} عطف عليه.
{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جواب القسم.
وأجاز الكسائي فتح إن في القسم.
والمراد ب {الصَّافَّاتِ} وما بعدها إلى قوله: {فالتاليات ذِكْرًا} الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعِكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة.
تُصَفّ في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة.
وقيل: تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد.
وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفًا.
وقال الحسن: {صَفًّا} لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم.
وقيل: هي الطير؛ دليله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19].
والصف ترتيب الجمع على خط كالصفّ في الصلاة.
{وَالصَّافَّاتِ} جمع الجمع؛ يقال: جماعة صافة ثم يجمع صافّات.
وقيل: الصّافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفًّا في الصلاة أو في الجهاد؛ ذكره القشيري.
{فَالزَّاجِرَاتِ} الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود ومسروق وغيرهم على ما ذكرناه.
إما لأنها تزجر السحاب وتسوقه في قول السدّي.
وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح.
وقال قتادة: هي زواجر القرآن.
{فالتاليات ذِكْرًا} الملائكة تقرأ كتاب الله تعالى؛ قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جُبير والسّدي.
وقيل: المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع؛ لأنه كبير الملائكة فلا يخلو من جنود وأتباع.
وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله تعالى وكتبه.
وقيل: هي آيات القرآن وصفها بالتلاوة كما قال تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ} [النمل: 76].
ويجوز أن يقال لآيات القرآن تاليات؛ لأن بعض الحروف يتبع بعضًا؛ ذكره القشيري.
وذكر الماوردي: أن المراد بالتَّاليات الأنبياء يتلون الذكر على أممهم.
فإن قيل: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قيل له: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود؛ كقوله:
يَالَهْفَ زَيَّابَةَ للحارثِ الص ** ابِح فالغَانِم فالآيِبِ

كأنه قال: الذي صَبَّحَ فغَنِم فآب.
وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل.
وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلِّقين فالمقصِّرين.
فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات؛ قاله الزمخشري.
{إِنَّ إلهاكم لَوَاحِدٌ} جواب القسم.
قال مقاتل: وذلك أن الكفار بمكة قالوا اجعل الآلهة إلها واحدًا، وكيف يسع هذا الخلق فرد إله! فأقسم الله بهؤلاء تشريفًا.
ونزلت الآية.
قال ابن الأنباري: وهو وقف حسن، ثم تبتدىء {رَّبُّ السماوات والأرض} على معنى هو رب السموات.
النحاس: ويجوز أن يكون {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} خبرًا بعد خبرٍ، ويجوز أن يكون بدلًا من {وَاحِدٌ}.
قلت: وعلى هذين الوجهين لا يوقف على {لَوَاحدٌ}.
وحكى الأخفش: {رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الْمَشَارِقِ} بالنصب على النعت لاسم إن.
بيّن سبحانه معنى وحدانيّته وألوهيته وكمال قدرته بأنه {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومالكهما {وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} أي مالك مطالع الشمس.
ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق ومغرب؛ وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلثمائة وخمس وستين كوّة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع في كل يوم في كوّة منها، وتغيب في كوّة، لا تطلع في تلك الكوّة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل.