فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا تطلع إلا وهي كارهة فتقول: ربّ لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك.
ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد، وابن الأنباري في كتاب الرد عن عكرمة؛ قال: قلت لابن عباس أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصَّلْت «آمن شعرهُ وكفر قلبُه» قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟ قلت: أنكرنا قوله:
والشمسُ تطلُعُ كلَّ آخِرِ ليلةٍ ** حمراءَ يُصبحُ لوْنُها يتَورَّدُ

ليست بطالعةٍ لَهُم في رِسْلِهَا ** إلاَّ مُعَذَّبةً وَإلاَّ تُجْلَدُ

ما بالُ الشمس تُجْلَد؟ فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف مَلَك، فيقولون لها اطلعي اطلعي، فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملك فيستقلّ لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدّها عن الطلوع فتطلعُ بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وما غربت قط إلا خَرّت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدّها عن السجود فتغرُب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها» لفظ ابن الأنباري.
وذكر عن عكرمة عن ابن عباس قال: صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّة بن أبي الصَّلْت في هذا الشعر:
زُحَلٌ وثَوْرٌ تحتَ رِجلِ يَمينِهِ ** والنّسر للأخرى وليثٌ مُرْصِدُ

والشمسُ تَطلعُ كلّ آخرِ ليلةٍ ** حمراء يصبِحُ لونُها يَتَورَّدُ

ليست بطالعة لهم في رِسْلِها ** إلاّ مُعذَّبةً وإلاّ تُجْلَدُ

قال عكرمة: فقلت لابن عباس: يا مولاي أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الرويّ إلى الجلد لكنها تخاف العقاب.
ودلّ بذكر المطالع على المغارب؛ فلهذا لم يذكر المغارب، وهو كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81].
وخصّ المشارق بالذكر؛ لأن الشروق قبل الغروب.
وقال في سورة الرحمن: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] أراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار على ما تقدّم في يس والله أعلم.
قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثًا؛ رجومًا للشياطين، ونورًا يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا.
وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وعاصم وحمزة: {بِزِينةٍ} مخفوض منوّن {الْكَوَاكِبِ} خفض على البدل من {زينة} لأنها هي.
وقرأ أبو بكر كذلك إلا أنه نصب {الْكَوَاكب} بالمصدر الذي هو زينة.
والمعنى بأن زينا الكواكب فيها.
ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أعني؛ كأنه قال: إنا زيناها {بِزينة} أعني {الكواكِبَ}.
وقيل: هي بدل من زينة على الموضع.
ويجوز {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبُ} بمعنى بأن زينتها الكواكبُ.
أو بمعنى هي الكواكب.
الباقون {بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ} على الإضافة.
والمعنى زينا السماء الدنيا بتزيين الكواكِب؛ أي بحسن الكواكب.
ويجوز أن يكون كقراءة من نوّن إلا أنه حذف التنوين استخفافا.
{وَحِفْظًا} مصدر؛ أي حفظناها حفظًا.
{مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} لما أخبر أن الملائكة تنزل بالوحي من السماء، بيّن أنه حرس السماء عن استراق السمع بعد أن زيّنها بالكواكب.
والمارد: العاتي من الجن والإنس، والعرب تسميه شيطانًا.
قوله تعالى: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} قال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف {أن} فرفع الفعل.
الملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمّي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض.
الضمير في {يَسَّمَّعُون} للشياطين.
وقرأ جمهور الناس {يَسْمَعُونَ} بسكون السين وتخفيف الميم.
وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص {لاَ يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم من التسميع.
فينتفي على القراءة الأولى سماعهم وإن كانوا يستمعون، وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212].
وينتفي على القراءة الأخيرة أن يقع منهم استماع أو سماع.
قال مجاهد: كانوا يتسمَّعون ولكن لا يسمعون.
وروي عن ابن عباس {لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإَ} قال: هم لا يسمَّعون ولا يتسمعون.
وأصل {يَسَّمَّعُونَ} يتسمعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها.
واختارها أبو عبيد؛ لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه وتقول تسمّعت إليه.
{وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي يُرمَون من كل جانب؛ أي بالشُّهب.
{دُحُورًا} مصدر؛ لأن معنى {يُقْذَفُونَ} يُدحَرون.
دحرته دَحْرًا ودُحُورا أي طردته.
وقرأ السُّلَمي ويعقوب الحضرمي {دَحُورًا} بفتح الدال يكون مصدرًا على فعول.
وأما الفرّاء فإنه قدّره على أنه اسم الفاعل.
أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء؛ والكوفيون يستعملون هذا كثيرًا كما أنشدوا:
تَمُّرونَ الديارَ ولَمْ تَعوجُوا

واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث؛ على قولين.
وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة الجن عن ابن عباس.
وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال: إن الذين قالوا لم تكن الشياطين تُرْمى بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم رميت؛ أي لم تكن تُرمَى رميًا يقطعها عن السمع، ولكنها كانت تُرمَى وقتًا ولا تُرمَى وقتًا، وتُرمى من جانب ولا تُرمَى من جانب.
ولعل الإشارة بقوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبًا.
وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويَسلَم واحد ولا يَسلَم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكِّل.
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم زِيد في حفظ السماء، وأعدّت لهم شُهُب لم تكن من قبل؛ ليُدْحَروا عن جميع جوانب السماء، ولا يُقَرُّوا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها؛ فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفّة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه؛ فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوّة.
فإن قيل: إن هذا القذف إن كان لأجل النبوّة فَلِمَ دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب أنه دام بدوام النبوّة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة فقال: «ليس منا من تكهّن» فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجنّ إلى تسمّعها؛ وعادت الكهانة.
ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأنّ قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوّة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يُؤمَن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوّة، فصحّ أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي دائم؛ عن مجاهد وقتادة.
وقال ابن عباس: شديد.
الكلبي والسدّي وأبو صالح: موجع؛ أي الذي يصل وجعه إلى القلب؛ مأخوذ من الوصب وهو المرض {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناء من قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير الوحي؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} فيسترق الواحد منهم شيئًا مما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض؛ وهذا لخفة أجسام الشياطين فيُرجمون بالشُّهب حينئذ.
وروي في هذا الباب أحاديث صحاح، مضمّنها: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد للسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدّم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله تعالى الأمر من أمر الأرض، فيتحدّث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيّناه.
فتنزل تلك الكلمة إلى الكهّان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدّق الجاهلون الجميع كما بيّناه في الأنعام.
فلما جاء الله بالإسلام حُرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع بَتّةً.
والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقضّ.
قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها؛ لأنها قريبة منا.
وقد مضى في هذا الباب في سورة الحجر من البيان ما فيه كفاية.
وذكرنا في سبأ حديث أبي هريرة. وفيه. {والشياطين بعضهم فوق بعض} وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح.
وفيه عن ابن عباس: «ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائه فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ ولكنهم يحرّفونه ويزيدون» قال هذا حديث حسن صحيح.
والخطف: أخذ الشيء بسرعة؛ يقال: خَطَفَ وخَطِفَ وخَطَّفَ وخِطَّفَ وخِطِّفَ.
والأصل في المشدّدات اختطف فأدغم التاء في الطاء لأنها أختها، وفتحت الخاء؛ لأن حركة التاء ألقيت عليها.
ومن كسرها فلالتقاء الساكنين.
ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر.
{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي مضيء؛ قاله الضحاك والحسن وغيرهما.
وقيل: المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في البحر.
وقال ابن عباس في الشهب: تحرقهم من غير موت.
وليست الشُّهُب التي يرجم الناس بها من الكواكب الثوابت.
يدلّ على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها لبعدها.
وقد مضى هذا.
وجمع شهاب شهب، والقياس في القليل أشهِبة وإن لم يُسمع من العرب.
و{ثَاقِبٌ} معناه مضيء؛ قاله الحسن ومجاهد وأبو مِجْلَز.
ومنه قوله:
وَزَنْدُكَ أَثْقَبُ أزنادِها

أي أضوأ.
وحكى الأخفش في الجمع: شُهُبٌ ثُقُبٌ وثواقب وثقاب.
وحكى الكسائي: ثَقَبتِ النارُ تَثقُب ثَقابةً وثقوبًا إذا اتقدت، وأثقبتها أنا.
وقال زيد بن أسلم في الثاقب: إنه المستوقد؛ من قولهم: أَثْقِب زِنْدَك أي استوقد نارك؛ وقاله الأخفش.
وأنشد قول الشاعر:
بينما المرءُ شِهابٌ ثاقبٌ ** ضربَ الدهرُ سَناهُ فَخَمدْ

. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)}.
هذه السورة مكية، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء، كان ذكر تعالى وحدانيته، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودًا وعدمًا إلا بكون المريد واحدًا، وتقدم الكلام على ذلك في قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال: {والصافات}.
قال ابن مسعود، وقتادة، ومسروق: هم الملائكة، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفًا؛ وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله.
وقيل: من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة.
وقيل: والطير صافات.
والزاجرات، قال مجاهد، والسدي: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى.
وقال قتادة: آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية؛ وقيل: كل ما زجر عن معاصي الله.
والتاليات: القارئات.
قال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره.
وقال قتادة: بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره.
وقال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره.
قال الزمخشري: ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالموعظة والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدارسات شرائعه؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى.