فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ما معناه: إن الفاء العاطفة في الصافات، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الصابح، فالغانم، فالآيب، أي الذي صبح فغنم فآب؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقبين فالمقصرين.
فأما هنا، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة، فيكون الفضل للصف، ثم الزجر، ثم التلاوة؛ وإما على العكس، وإن تليت الموصوف، فترتب في الفضل، فتكون الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلًا، أو على العكس. انتهى.
ومعنى العكس في المكانين: أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول؛ أو تبدأ بالأدنى، ثم بالفاضل، ثم بالأفضل.
وأدغم ابن مسعود، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة: التاآت الثلاثة.
والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف، وهو أمدح، أي هو رب.
وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار، والإبصار بها أكلف، وذكرها يغني عن ذكر المغارب، إذ ذاك مفهوم من المشارق، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقًا، وكذلك المغارب.
تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.
وثني في {رب المشرقين ورب المغربين} باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.
وقال ابن عطية: أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها، وهي مائة وثمانون في السنة، فيما يزعمون، من أطول أيام السنة إلى أقصرها.
ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، وانتظام التزيين أن جعلها حفظًا وحذرًا من الشيطان. انتهى.
والزينة مصدر كالسنة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة.
وقرأ الجمهور: {بزينة الكواكب} بالإضافة، فاحتمل المصدر مضافًا للفاعل، أي بأن زانت السماء الكواكب، ومضافًا للمفعول، أي بأن زين الله الكواكب.
واحتمل أن يكون ما يزان به، والكواكب بيان للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها.
وقرأ ابن مسعود، ومسروق: بخلاف عنه؛ وأبو زرعة، وابن وثاب، وطلحة: {بزينة} منونًا، {الكواكب} بالخفض بدلًا من زينة.
وقرأ ابن وثاب، ومسروق: بخلاف عنهما؛ والأعمش، وطلحة، وأبو بكر: {بزينة} منونًا، {الكواكب} نصبًا، فاحتمل أن يكون {بزينة} مصدرًا، و{الكواكب} مفعول به، كقوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا} واحتمل أن يكون الكواكب بدلًا من السماء، أي زينا كواكب السماء.
وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ، أي هو الكواكب، أو على الفاعلية بالمصدر، أي بأن زينت الكواكب.
ورفع الفاعل بالمصدر المنون، زعم الفراء أنه ليس بمسموع، وأجاز البصريون ذلك على قلة.
وقال ابن عباس: {بزينة الكواكب} بضوء الكواكب؛ قيل: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا، وبنات نعش، والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها.
وخص {السماء الدنيا} بالذكر، لأنها التي تشاهد بالأبصار؛ والحفظ من الشياطين، إنما هو فيها وحدها.
وانتصب {وحفظًا} على المصدر، أي وحفظناها حفظًا، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو، أو على تأخير العامل، أي ولحفظها زيناها بالكواكب، وحملًا على معنى ما تقدم، لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظًا: وكل هذه الأقوال منقولة، والمارد تقدم شرحه في قوله: {شيطانًا مريدًا} في النساء، وهناك جاء {مريدًا} وهنا {مارد} مراعاة للفواصل.
{لا يسمعون إلا الملأ الأعلى} كلام منقطع مبتدأ اقتصاصًا لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب.
ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافًا جوابًا لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين، لأن الوصف كونهم لا يسمعون، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما، إذ يصير المعنى مع الوصف: وحفظًا من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع، وكذلك لا يستقيم مع كونه جوابًا.
وقول من قال: إن الأصل لأن لا يسمعوا، فحذفت اللام وإن، فارتفع الفعل، قول متعسف يصان كلام الله عنه.
وقرأ الجمهور: {لا يسمعون} نفي سماعهم، وإن كانوا يسمعون بقوله: {إنهم عن السمع لمعزولون} وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء.
وقرأ ابن عباس بخلاف عنه؛ وابن وثاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون، أدغمت التاء في السين، وتقتضي نفي التسمع.
وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن، لكنهم لا يسمعون؛ وإن سمع أحد منهم شيئًا لم يفلت حرسًا وشهبًا من وقت بعثة رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
وكان الرجم في الجاهلية أحق، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته، وهو السمع.
و{الملأ الأعلى} يعم الملائكة، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة، وعنه كتابهم.
{ويقذفون} يرمون ويرجمون، {من كل جانب} أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا، قاله مكي والنقاش.
وقرأ محبوب عن ابن عمرو: {ويقذفون} مبنيًا للفاعل، و{دحورًا} مصدر في موضع الحال.
قال مجاهد: مطرودين، أو مفعول من أجله، أي ولو يقذفون للطرد، أو مصدر ليقذفون، لأنه متضمن معنى الطرد، أي ويدحرون من كل جانب دحورًا، ويقذفون من كل جانب قذفًا.
فإما أن يكون التجوز في ويقذفون، وإما في دحورًا.
وقرأ عليّ، والسلمي، وابن أبي عبلة، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر: {دحورًا} بنصب الدال، أي قذفًا دحورًا، بنصب الدال.
ويجوز أن يكون مصدرًا، كالقبول والولوغ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة.
والواصب: الدائم، قاله السدّي وأبو صالح، وتقدّم في سورة النحل.
ويقال: وصب الشيء وصوبًا: دام.
وقال مجاهد: الموجع، ومنه الوصب، كأن المعنى: أنهم في الدنيا مرجومون، وفي الآخرة معذبون.
ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا، وهو رجمهم دائمًا، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.
{إلا من خطف الخطفة} من بدل من الضمير في لا يسمعون، ويجوز أن يكون منصوبًا على الاستثناء، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف.
وقرأ الجمهور: {خطف} ثلاثيًا بكسر الطاء.
وقرأ الحسن، وقتادة: بكسر الخاء والطاء مشددة.
قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة.
وقرئ: {خطف} بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، وعن الحسن أيضًا التخفيف.
وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأول لما سكنت للإدغام، والخاء ساكنة، كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعًا لحركة الخاء.
وعن ابن عباس: خطف بكسر الخاء والطاء مخففة، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا نعم.
وقرئ: {فاتبعه} ، مخففًا ومشددًا.
والثاقب، قال السدي وقتادة: هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير. اهـ.

.قال أبو السعود:

سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية.
بِسْمِ الله الرحمن الرحيم.
{والصافات صَفَّا} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ من غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسُها أي النَّاظمات أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ {فالزجرات زَجْرًا} أي الفاعلاتِ للزَّجرِ أو الزَّاجراتِ لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرامِ العلويَّةِ والسُّفليَّةِ وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ. ومن جُملة ذلك زجرُ العبادِ عن المعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي، وصفًّا وزَجْرًا مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعًا وزَجْرًا بليغًا، وأمَّا ذِكرًا في قولهِ تعالى: {فالتاليات ذِكْرًا} فمفعولُ التَّالياتِ ذكرًا عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ اللَّهِ تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضًا مصدرٌ مؤكِّد لما قبلَه فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثمَّ للزَّجرِ ثمَّ للتِّلاوةِ أو على العكسِ، وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو للدِّلالةِ على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلًا أو على العكس. وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه. وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ. أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقًا والعدوَّ في المعارك طَرْدًا التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك. والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ، وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله:
يا لهفَ زبَّانةَ للحارث ال ** صابحِ فالغانمِ فالآيبِ

فغيرُ ظاهرةٍ في شيءٍ من الطَّوائفِ المذكورة، فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ. وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى: {والطير صافات} والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي، والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى. وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ. وقُرئ بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ.
{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جوابٌ للقسمِ. والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيد لما يعقبُه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النَّمطِ البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وربُّ خبرٌ ثانٍ لأنَّ، أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرضِ وما بينهما من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها. والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ. وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنَّها ثلاثمائة وستُّون مشرقًا تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} أي القُربى منكم {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الكواكب} بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أن المرادَ بها الاسمُ، أي ما يُزان به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينةٍ. وقُرئ بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بيانًا لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها. ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ. هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدرًا فالمعنى على تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها، وأصله بزينة الكواكب. وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها، وأصله بزينة الكواكب.
والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمرَ في السنةِ المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك.
{وَحِفْظًا} منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبار المعنى كأنَّه قيل إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظًا {مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ. وإمَّا بإضمار فعلهِ، وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظًا من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُومًا للشياطين} وقوله تعالى: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظِ السَّماءِ عنهم من التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ، ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جوابًا عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم يحذفُ أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قولِ مَن قال:
أَلاَ أَيُهذا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى

لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه، فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التَّنزيل الجليلِ عن أمثالها. وأصلُ يسمَّعون يتسمَّعُون. والملأُ الأعلى: الملائكةُ. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: هم الكَتَبةُ. وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاءَ إليهم. وقُرئ {يسمعُون} بالتَّخفيفِ {وَيَقْذِفُونَ} يُرمَون {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها {دُحُورًا} علَّةً للقذفِ أي للدُّحورِ وهو الطَّردُ. أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّدٌ له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ. وقُرئ {دَحُورًا} بفتح الدَّالِ أي قَذْفًا دَحُورًا مبالغًا في الطَّردِ. وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدرًا كالقَبُولِ والولُوعِ {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي ولهم في الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناءٌ من واوِ يسمَّعون. ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ. وقُرئ بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ وتشديدها، وأصلُهما اختطفَ {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي تبعَه ولحقَه. وقُرئ {فأتبعَه} والشِّهابُ ما يُرى منقضًا من السَّماءِ {ثَاقِبٌ} مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم. قالُوا: وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعًا في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ. اهـ.