فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

سورة الصافّات:
نزولها: مكية.. باتفاق عدد آياتها: مائة واثنتان وثمانون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وستون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة يس بقوله تعالى: {فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وبدئت سورة الصافات بهذا القسم الذي يقسم به سبحانه على تلك الحقيقة، وهى وحدانية الألوهية، التي هي من مقتضى ملكية اللّه لكلّ شىء.. فإذا كان اللّه هو مالك لكل شىء، كان من مقتضى هذا أن ينفرد بالألوهية، وألا يشاركه في هذا الوجود أحد، وإلا كانت ملكينه له غير تامة.. وأما وملكيته سبحانه ملكية مطلقة لهذا الوجود، فهو- وحده سبحانه- صاحب الأمر فيه، وإليه وحده يكون ولاء كل موجود.
قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا}.
اختلف في المراد بالصافات.. فقيل هم الملائكة باعتبارهم جماعات وفرقا.
وقيل هم جماعات المؤمنين، الصّافين في الصلاة.. بمعنى أنهم قائمون صفوفا ساجية ساكنة، خاشعة في الصلاة.
وقيل هي جماعات الطير تسبح في جوّ السماء صافة أجنحتها، أي باسطة لها من غير حركة، وأن الزاجرات هي جماعة الملائكة التي تنزل بالمهلكات، وأن التاليات ذكرا، هن جماعات المؤمنين في الصلاة.. وعلى هذا التأويل يكون القسم بثلاثة أصناف، لا بصنف واحد، له ثلاثة أوصاف.
والذي يقول بأن الصافات هم جماعة الملائكة، يقول كذلك إن الزاجرات، والتاليات هم جماعات الملائكة في أحوال غير أحوالهم وهم صافّون، أو هم جماعات غير تلك الجماعة الصافة.. فالزاجرات زجرا، هي جماعات الملائكة التي تحمل نذر الهلاك إلى المكذبين باللّه، والتاليات ذكرا، هي جماعات الملائكة التي تحمل إلى رسل اللّه آياته وكلماته.
والذي يقول إن المراد بالصافات صفّا، هم جماعة المؤمنين في مواقف الصلاة- يقول إن الزاجرات زجرا، هنّ الآيات التي يتلوها المصلون في صلاة الجهر، والتاليات ذكرا هن الآيات التي تتلى في صلاة السرّ.
والذي نرجحه من هذه الآراء هو- واللّه أعلم- القول بأن هذه الأوصاف هي للملائكة.. وذلك:
أولا: أن اللّه سبحانه ذكر في أول سورة فاطر قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ}.
وفى هذا إشارة إلى أن الملائكة يصفّون كما تصف الطير بأجنحتها.
وثانيا: أن اللّه سبحانه ذكر في آخر هذه السورة الصافات قول الملائكة:
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [165- 166].
والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وتقوم دلالات بعض آياته شواهد على بعض.
فالصافات صفّا، جماعات الملائكة، الذين يصفون أجنحتهم في ولاء وخشوع دائم، وفى عبادة متصلة للّه رب العالمين.
والزاجرات زجرا.. جماعات من الملائكة، يسلطهم اللّه على أعدائه في الدنيا والآخرة، يرجمونهم بالمهلكات.
والتاليات ذكرا، جماعات من الملائكة، هم حملة كلمات اللّه إلى عباده.
يتلونها على رسله، لينذروا بها أقوامهم.
قوله تعالى: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ}.. هو جواب القسم، {والصافات} وهو يقرر هذه الحقيقة ويؤكدها،.. تلك الحقيقة التي يشهد بها كل موجود، وهى أن إله الموجودات جميعها، إله واحد، هو الذي أوجدها، وهو الذي قام بسلطانه عليها.
قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ}.
فهذا الإله الواحد، هو رب السموات والأرض، وما بين السموات والأرض، وما في السموات والأرض.. إنه ربّ كلّ شيء وبيده ملكوت كل شىء، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله.. وهو رب المشارق.
والمشارق، يمكن أن يكون معناها، المنازل التي تنزلها الشمس في شروقها.
فهى تطلع كل يوم من مطلع غير الذي طلعت منه، على مدار السنة.. وكذلك الشأن في مغربها.. كما هو معروف في علم الفلك، وكما هو ظاهر للعين من مطلع الشمس ومشرقها في الفصول الأربعة، وفى فصلى الصيف والشتاء بخاصة.
ويمكن أن تكون المشارق، والمغارب مشارق الأرض ومغاربها، أي جهة الشرق والغرب فيها،. ويكون المراد بذلك، هو لفت الأنظار إلى اتساع آفاق الأرض، وأنه كلما اتجه الإنسان في هذين الاتجاهين- الشرق والغرب- وجد مشارق ومغارب، وقد أصبح الشرق اليوم- في التقسيم السياسى والجغرافى للعالم- شرقا أدنى، وشرقا أوسط، وشرقا أقصى.. وإلى هذا المعنى- وهو اتساع آفاق الأرض- يشير قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} [الأعراف: 137].
وقد جاء في القرآن الكريم: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [17: الرحمن] وجاء في القرآن الكريم كذلك: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [9: المزمل].
وعلى كلا المعنيين يمكن أن يحمل تأويل كل من الآيتين.. وهذا ظاهر.
واختص المشارق بالذكر، لأنها هي مطلع النور، ومن الشرق تطلع الشمس، التي هي مصدر النور، والدفء والحياة!.
قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ}.
الكواكب: بدل من زينة.. والتقدير إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب.
والكواكب، جمع كوكب.. والكواكب غير النجوم في اصطلاح علماء الفلك.. إذ أن الكواكب متحركة تدور حول النجوم، على حين أن النجوم ثابتة تدور حول نفسها.. وكل نجم له مجموعة كواكب تدور حوله.
كالشمس، والكواكب السيارة التي تدور حولها، ومنها الأرض والقمر، والمشرق وزحل، والمريخ، وعطارد، والزهرة.
والسماء الدنيا، هي أقرب السموات إلينا، وأدناها من عالمنا الأرضى، وهى هذه السماء التي تطل علينا منها الشمس، والقمر، والنجوم.. وهناك سموات أخرى فوق هذه السماء، لم يبلغها علمنا، ولا تصل إليها أدوات الرصد التي نرصد بها ما في السماء الدنيا من كواكب ونجوم.. وأن هذه السماء الدنيا، وما فيها من نجوم يصل ضوءها إلى الأرض في أكثر من مليون سنة ضوئية- هذه السماء وما فيها من نجوم وكواكب، ليست إلا سطرا في كتاب الوجود الذي لا نهاية له.. فما أعظم قدرة الخالق، وما أروع ما أبدع وصور..! وما أضأل شأن هذا الإنسان، وما أصغر قدره إلى هذه الوجود العظيم، الذي لا يعدو أن يكون هذا الإنسان فيه، هباءة سابحة في الهواء، لا تراها عين، ولا تمسك بها يد.
لقد طارت الإنسانية طربا، واهتزت زهوا وغرورا، أن وصلت بمراكبها إلى القمر، وأن مشت بأقدامها فوقه!!.
وما القمر هذا؟ وما مكانه في هذا الوجود؟ إنه ليس إلا ذرة من رمل في السماء الدنيا! فكيف بالقمر هذا في مواجهة الوجود كله، وسمواته جميعها؟
إن الإنسان لم يقطع من صفحة السماء الدنيا، في رحلته هذه إلى القمر، إلا كما تقطع النملة رحلة العمر، من جذر شجرة إلى ورقة من أوراقها! إنه انتصار للنملة لا شك، ولكنه نصر محسوب بحسابها، مقدور بقدرها.
قوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} معطوف على قوله تعالى زينا، أي زيناها بالكواكب وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد.
والمارد، والمريد، هو المجرد من كل خير.. وشجرة مرداء، لا ورق ولا ثمر عليها.
قوله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ}.
أي إن هؤلاء الشياطين المردة، وقد حفظت السماء من أن يقربوا منها، أو يطوفوا بها- لا يستطيعون أن يصغوا إلى الملأ الأعلى، وما يجرى فيه، فإذا حاولوا ذلك قذفوا من كل جانب بالشهب، ورموا من كل مكان بالرجوم، فيرجعون مدحورين مقهورين، لم يحصلوا على شىء.
{وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} أي خالص وتام، كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا} [25: النحل].
قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} هو استثناء من الفاعل في قوله تعالى: {لا يَسَّمَّعُونَ}.. أي إن هؤلاء الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى إلا خطفا من بعضهم، ممن يلقى بنفسه منهم في سبيل ذلك إلى التهلكة، حيث يرمى بشهاب راصد لكل من حام حول هذا الحمى.
ويسّمّعون: أصله يتسمعون.. وقد ضمن معنى الفعل يصغون أو يدنون، ولهذا عدّى بحرف الجر إلى.. أي لا يستطيعون أن يتسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم في إصغاء شديد حالة التسمع.
والآية الكريمة، ترد على المشركين معتقدهم الفاسد، في أن الشياطين يعلمون الغيب، وأنهم يتلقون ذلك باتصالهم بالملأ الأعلى، واستماعهم إلى ما يدور بين الملائكة هناك، مما يتصل بالعالم الأرضى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
والحديث عن الجن والشياطين، وإن كان ينكره الماديون، ويعدّونه ضربا من الخرافات، قد أصبح اليوم من مقررات العلم الذي يقوم على التجربة والاختبار، حتى إن كثيرا من الماديين الذين كانو ينكرون عالم الروح لم يجدوا أمام الشواهد الكثيرة الملموسة، إلا أن يعترفوا به.. ولسوف يكشف العلم لهم يوما أن الجن والشياطين، هي من تلك الأرواح التي تسكن هذا العالم الأرضى، وتعيش مع الإنسان فيه.. فهذا مما تحدث به القرآن، وما حديث القرآن إلا الحقّ المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} القسم لتأكيد الخبر مَزيدَ تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختَلف الأصناف وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله {فالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}.
وعطف {الصِّفات} بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصللِ بعضها ببعض كقول امرىء القيس:
بِسِقط اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَل

فتُوضِحَ فالمقرةِ

البيت.
وكقول لبيد:
بمشارق الجبليين أو بمحجر ** فتضمنتها فَردَه فمرخاها

فصدائق إن أيْمَنت فمظنة

البيت.
ويعطفون بها صفاتتِ موصوف واحد كقول ابن زيَّابة:
يا لهف زيَّابة للحارث ال ** صابح فالغَانم فالآيب

يريد صفات للحارث، ووصفه بها تهكمًا به.
فعن جماعة من السلف: أن هذه الصفات للملائكة.
وعن قتادة أن {التاليات ذكرًا} الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين.
وقسَمُ الله بمخلوقاته يُومىء إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دَالّ على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرّفًا عند الله تعالى.
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرَائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحادٌ منهم.
و{الصافات} جمع: صافة، وهي الطائفة المصطفّ بعضها مع بعض.
يقال: صف الأمير الجيش، متعديًا إذا جعله صفًا واحدًا أو صفوفًا، فاصطفوا.
ويقال: فَصَفُّوا، أي صاروا مصطفِّين، فهو قاصر.
وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج:
قد جَبر الدينَ الإِله فجَبَر

وتقدم قوله: {فاذكروا اسم اللَّه عليها صَوافّ} في سورة [الحج: 36]، وقوله: {والطير صافات} [النور: 41].
ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفّة صفوفًا، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب.
ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم من أمر الله تعالى قال تعالى، حكاية عنهم في هذه السورة {وإنَّا لنحن الصَّافونَ وإنَّا لنحنُ المُسَبِحُونَ} [الصافات 165، 166].
والزجرُ: الحث في نهي أو أمر بحيث لا يُترك للمأمور تباطؤ في الإِتيان بالمطلوب، والمراد به: تسخير الملائكة المخلوقاتتِ التي أمرهم الله بتسخيرها خلقًا أو فعلًا، كتكوين العناصر، وتصريف الرياح، وإزجاء السحاب إلى الآفاق.
و{التاليات ذكرًا} المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضًا أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} [سبأ: 23].