فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه، وهو استعظام الأمر المتعجب منه.
وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد» رواه النسائي بهذا اللفظ.
يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافرًا فيقاتل فيستشهد في سبيل الله.
وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلًا فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما «عجِب الله من فعالكما».
ونزل فيه {ويؤثرون على أنفسهم} [الحشر: 9].
وقوله: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل».
وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله: {عَجِبْتُ} ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث.
ويجوز أن يكون أطلق {عجبت} على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قوله: {فاستفتهم أهم أشدُّ خلقًا} [الصافات 11] دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم.
وأطلق على ذلك العقاب فعل {عجبت} كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران: 54].
والواو في {ويَسْخَرُونَ} واو الحال، والجملة في موضع الحال من ضمير {عَجِبْتَ} أي كان أمرهم عجبًا في حال استسخارهم بك في استفتائهم.
وجيء بالمضارع في {يسخرون} لإِفادة تجدد السخرية، وأنهم لا يرعوُون عنها.
والسخرية: الاستهزاء، وتقدمت في قوله تعالى: {فحاق بالذين سخروا منهم} في سورة [الأنعام: 10].
والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم، ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عنادًا فأطلق {لاَ يَذْكُرُونَ} على أثر الفعل، أي لا يحصل فيهم أَثَر تذكُّر ما يذكَّرون به وإن كانوا قد ذَكروا ذلك.
ويجوز أن يراد لا يذكرون ما ذكروا به، أي لشدة إعْراضهم عن التأمل فيما ذكِّروا به لاستقرار ما ذُكّروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه، على حد قوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام} [الفرقان: 44].
و{وإذَا رَأوْا ءَايَةً} أي خارق عادة أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالًا على صدقه لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في هذا العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله: صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني.
وقد رأوا انشقاق القمر، فقالوا: هذا سحر، قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشقّ القمر وإن يروا آية يُعرِضوا ويقولوا سحر مستمر} [القمر: 1، 2].
و{يَسْتَسْخِرُونَ} مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {فاستجاب لهم ربهم} [آل عمران: 195] وقوله: {فاستمسِك بالذي أوحي إليك} [الزخرف: 43].
فالسخرية المذكورة في قوله: {ويسخرون} سخرية من محاجّة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالأدلة.
والسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات، أي يزيدون في السخرية بمن ظنّ منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم، ألا ترى أنهم قالوا: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 42].
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)}.
عطف على جملة {فاستفتهم أهم أشد خلقًا} [الصافات 11] الآية.
والإِشارة في قوله: {إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ مبينٌ} إلى مضمون قوله: {فاستفتهم أهم أشد خلقًا} وهو إعادة الخلق عند البعث، ويبينه قوله: {أءِذَا مِتْنا وكنا ترابًا وعِظامًا إنا لمبْعُوثون} أي وقالوا في رد الدليل الذي تضمنه قوله: {أهُم أشد خلقًا أم مَّنْ خلقنا} [الصافات 11] أي أجابوا بأن ادعاء إعادة الحياة بعد البِلَى كلام سحر مبين، أي كلام لا يفهم قصد به سحر السامع.
هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيرًا يلتئم به نظمها خلافًا لما درج عليه المفسرون.
وقرأ نافع وحده {إنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بهمزة واحدة هي همزة {إنْ} باعتبار أنه جواب {إذا} الواقعة في حيّز الاستفهام فهو من حيز الاستفهام.
وقرأ غير نافع {أَإِنا} بهمزتين: إحداهما همزة الاستفهام مؤكدة للهمزة الداخلة على {إذا}.
وقوله: {أوْ ءَاباؤُنَا} قرأه قالون عن نافع وابن عامر وأبو جعفر بسكون واو {أوْ على أن الهمزة مع الواو حرف واحد هو أو} العاطفة المفيدة للتقسيم هنا ووجه العطف ب أو هو جعلهم الآباء الأولين قسمًا آخر فكان عطفه ارتقاء في إظهار استحالة إعادة هذا القسم لأن آباءهم طالت عصور فنائهم فكانت إعادة حياتهم أوغل في الاستحالة.
وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الواو واو العطف والهمزة همزة استفهام فهما حرفان.
وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف حسب الاستعمال الكثير.
والتقدير: وأآباؤنا الأولون مثلنا.
وعلى كلتا القراءتين فرفعه بالعطف على محل اسم إنّ الذي كان مبتدأ قبل دخول إنّ، والغالب في العطف على اسم إن يرفع المعطوف اعتبارًا بالمحل كما في قوله تعالى: {أن اللَّه بريء من المشركين ورسولُه} [التوبة: 3] أو يجعل معطوفًا على الضمير المستتر في خبر إن وهو هنا مرفوع بالنيابة عن الفاعل ولا يضر الفصل بين المعطوف عليه الذي هو ضمير متصل وبين حرف العطف، أو بين المعطوف عليه والمعطوف بالهمزة المفضِي إلى إعمال ما قبل الهمزة فيما بعدها وذلك ينافي صدارة الاستفهام لأن صدارة الاستفهام بالنسبة إلى جملته فلا ينافيها عمل عامل من جملة قبله لأن الإِعمال اعتبار يعتبره المتكلم ويفهمه السامع فلا ينافي الترتيب اللفظي.
والاستفهام في قوله: {أإذا متنا} إنكاري كما تقدم فلذلك كان قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ} جوابًا لقولهم {أءِذَا مِتْنَا} على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين: أيبعثون؟ فقيل لهم: نعم، تقريرًا للبعث المستفهم عنه، أي نعم تبعثون.
وجيء ب {قل} غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].
و{أنتم داخرون} جملة في موضع الحال.
والداخر: الصاغر الذليل، أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بترقب العقاب لا بعث كرامة.
وفُرّع على إثبات البعث الحاصل بقوله: {نَعَمْ} أن بعثهم وشيك الحصول لا يقتضي معالجة ولا زمنًا إن هي إلا إعادة تنتظر زجرة واحدة.
والزجرة: الصيحة، وقد تقدم آنفًا قوله تعالى: {فالزاجرات زجرًا} [الصافات 2].
و{واحِدةٌ} تأكيد لما تفيده صيغة الفعلة من معنى المرة لدفع توهم أن يكون المراد من الصيحة الجنس دون الوجود لأن وزن الفعلة يجيء لمعنى المصدر دون المرة.
وضمير {هِيَ} ضمير القصة والشأن وهو لا معادَ لهُ إنما تفسره الجملة التي بعده.
وفُرّع عليه {فإذا هم ينظرون} ودل فاء التفريع على تعقيب المفاجأة، ودل حرف المفاجأة على سرعة حصول ذلك.
وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} في سورة [يس 53].
وكُني عن الحياة الكاملة التي لا دهش يخالطها بالنظر في قوله: {يَنْظُرُونَ} لأن النظر لا يكون إلا مع تمام الحياة.
وأوثر النظر من بين بقية الحواس لمزيد اختصاصه بالمقام وهو التعريض بما اعْتراهم من البهت لمشاهدة الحشر.
{وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)}.
يجوز أن تكون الواو للحال، أي قائلين {ياويلنا} أي يقول جميعهم: يا ويلنا يقوله كل أحد عنه وعن أصحابه.
ويجوز أن يكون عطفًا على جملة {يَنْظُرُونَ} [الصافات 19].
والمعنى: ونظروا وقالوا.
والويل: سوء الحال.
وحرف النداء للاهتمام.
وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {يا حسرة على العباد} في سورة [يس 30].
والإِشارة إلى اليوم المشاهد.
و{الدّين} الجزاء، وتقدم في سورة الفاتحة.
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}.
يجوز أن يكون هذا كلامًا موجهًا إليهم من جانب الله تعالى جوابًا عن قولهم: {ياوَيْلنا هذا يومُ الدينِ} [الصافات 20]، والخبر مستعمل في التعريض بالوعيد، ويجوز أن يكون من تمام قولهم، أي يقول بعضهم لبعض {هذا يومُ الفَصْلِ}.
و{الفصل} تمييز الحق من الباطل، والمراد به الحكم والقضاء، أي هذا يوم يفضي عليكم بما استحققتموه من العقاب. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {والصافات صَفَّا}.
قرأ أبو عمرو، وحمزة، وقيل: حمزة فقط، بإدغام التاء من الصافات في صاد صفًا، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجرًا، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكرًا، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها.
قال النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاثة جهات: الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الدال، ولا من أخواتهن.
الجهة الثانية أن التاء في كلمة، وما بعدها في كلمة أخرى.
الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة.
وقال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان.
وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك، والواو للقسم، والمقسم به: الملائكة: الصافات، والزاجرات، والتاليات.
والمراد ب {الصافات} التي تصفّ في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
وقيل: إنها تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد.
وقال الحسن: صفًا كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم.
وقيل: المراد بالصافات هنا: الطير كما في قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} [الملك: 19] والأوّل أولى، والصفّ: ترتيب الجمع على خطّ كالصفّ في الصلاة.
وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفًا في الصلاة، أو في الجهاد، ذكره القشيري.
والمراد ب {الزاجرات} الفاعلات للزجر من الملائكة، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدّي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ، والنصائح.
وقال قتادة: المراد بالزاجرات: الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى، ويزجر عن القبيح، والأوّل أولى.
وانتصاب {صفا} و{زجرًا} على المصدرية لتأكيد ما قبلهما.
وقيل: المراد بالزاجرات: العلماء؛ لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي.
والزجر في الأصل: الدفع بقوّة، وهو هنا قوّة التصويت، ومنه قول الشاعر:
زجر أبي عروة السباع إذا ** أشفق أن يختلطن بالغنم

ومنه زجرت الإبل، والغنم: إذا أفزعتها بصوتك، والمراد ب {التاليات ذِكْرًا} الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والسدّي.
وقيل: المراد: جبريل وحده، فذكر بلفظ الجمع تعظيمًا له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة.
وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله، وكتبه.
وقيل: المراد: آيات القرآن، ووصفها بالتلاوة، وإن كانت متلوّة كما في قوله: {إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل} [النمل: 76].
وقيل: لأن بعضها يتلو بعضًا، ويتبعه.
وذكر الماوردي: أن التاليات هم: الأنبياء يتلون الذكر على أممهم، وانتصاب {ذكرًا} على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون مصدرًا كما قبله من قوله: {صفًا} و{زجرًا}.
قيل: وهذه الفاء في قوله: {فالزاجرات} {فالتاليات} إما لترتب الصفات أنفسها في الوجود، أو لترتب موصوفاتها في الفضل، وفي الكلّ نظر.
وقوله: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جواب القسم، أي: أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك.
وأجاز الكسائي فتح {إن} الواقعة في جواب القسم {رَبّ السموات والأرض} يجوز أن يكون خبرًا ثانيًا، وأن يكون بدلًا من {لواحد} وأن يكون خبر مبتدأ محذوف.
قال ابن الأنباري: الوقف على {لواحد} وقف حسن، ثم يبتدىء {ربّ السماوات والأرض} على معنى: هو ربّ السماوات، والأرض.
قال النحاس: ويجوز أن يكون بدلًا من {لواحد}.
والمعنى في الآية: أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وأنه ربّ ذلك كله، أي: خالقه، ومالكه.
والمراد بما بينهما: ما بين السماوات، والأرض من المخلوقات.
والمراد ب {المشارق} مشارق الشمس.