فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

والوالدت عام لأنه جمع معرف باللام، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق، فقوله: {والوالدات} معناه: والوالدات منهن، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلاّ بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلاّ لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ أولادهن} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في اللفظ يكون خبرًا إلا أنه في المعنى أمر:
هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبرًا إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين:
الأول: تقدير الآية: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه.
والثاني: أن يكون معنى يرضعن: ليرضعن، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
المسألة الثانية: هذا الأمر ليس أمر إيجاب:
ويدل عليه وجهان:
الأول: قوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] وهذا نص صريح، ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع، فلو كان الإرضاع واجبًا عليها لما وجب ذلك، وفيه البحث الذي قدمناه، إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم، أو لا يرضع الطفل إلا منها، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام. اهـ.

.قال الجصاص:

قَولَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مَخْبَرُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَالِدَاتِ مَنْ لَا يُرْضِعُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ وَأَمْرُهَا بِهِ؛ إذْ قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ وَإِنْ أَبَى الْأَب، أَوْ تَقْدِيرُ مَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّضَاعَ شَاءَتْ الْأُمُّ أَوْ أَبَتْ، وَأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ فِي أَنْ تُرْضِعَ أَوْ لَا تُرْضِعَ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَبَى اسْتِرْضَاعَ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ لِلْحَوْلَيْنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قال ابن عطية: قوله: {يرضعن} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه.
والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن} الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة. اهـ.

.قال الفخر:

أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين، وإنما أقام حولًا وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يومًا وبعض اليوم الآخر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ووصف الحولين بكاملين تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولًا وبعض الثاني؛ لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان، على بعض المدلول، إطلاق شائع عند العرب، فيقولون: هو ابن سنتين ويريدون سنة وبعض الثانية، كما مر في قوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول: أنه تعالى قال بعد ذلك: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني: أنه تعالى قال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار، بل فيه وجوه:
الأول: وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
الوجه الثاني: في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكمًا خاصًا في الشريعة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان، لا يفيد هذا الحكم، هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: مدة الرضاع ثلاثون شهرًا.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه:
الحجة الأولى: أنه ليس المقصود من قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك، إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين، فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك، وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى، وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة.
الحجة الثانية: روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا رضاع بعد فصال» وقال تعالى: {وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
الحجة الثالثة: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين».
والوجه الثالث: في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرًا، وقال آخرون: الحولان هذا الحد في رضاع كل مولود، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان، فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: {فإن أَرادا فصالًا عن تراضٍ منهما} قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا قول بعيد، لأن الله تعالى قال في أولها: {لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة} فلما قال في الثاني: {فإن أرادا فصالًا عن تراضٍ منهما} خيّر بين الإرادتين، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام. اهـ.

.قال الفخر:

في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول: أن تقدير الآية: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة، وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين، ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني: أن اللام متعلقة بقوله: {يُرْضِعْنَ} كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما أوهم أن ذلك يكون مجانًا نفاه بقوله: {وعلى} ولما كانت الوالدية لا تتحقق في الرجل كما تتحقق في المرأة وكان النسب يكتفى فيه بالفراش وكان للرجل دون المرأة فقال: {المولود له} أي على فراشه {رزقهن} أي المرضعات لأجل الرضاع سواء كن متصلات أو منفصلات فلو نشزت المتصلة لم يسقط وإن سقط ما يخص الزوجية. فلما كان اشتغالها بالرضاع عن كل ما يريده الزوج من الاستمتاع ربما أوهم سقوط الكسوة ذكرها فقال: {وكسوتهن} أجرة لهن. قال الحرالي: الكسوة رياش الآدمي الذي يستر ما ينبغي ستره من الذكر والأنثى وقال: فأشعرت إضافة الرزق والكسوة إليهن باعتبار حال المرأة فيه وعادتها بالسنة لا بالبدعة- انتهى.
ولما كان الحال مختلفًا في النفقة والكسوة باختلاف أحوال الرجال والنساء قال: {بالمعروف} أي- من حال كل منهما. قال الحرالي: فأكد ما أفهمته الإضافة وصرح الخطاب بإجماله- انتهى. ثم علله أو فسره بالحنيفية التي منَّ علينا سبحانه وتعالى بها فقال: {لا تكلف} قال الحرالي: من التكليف وهو أن يحمل المرء على أن يكلف بالأمر كلفة بالأشياء التي يدعوه إليها طبعه {نفس} أي لا يقع تكليفها وإن كان له سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء {إلا وسعها} أي ما تسعه وتطيقه لا كما فعل سبحانه بمن قبل، كان أحدهم يقرض ما أصاب البول من جلده بالمقراض والوسع قال الحرالي ما يتأتى بمنة وكمال قوة. اهـ.

.قال الفخر:

{المولود لَهُ} هو الوالد، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول: قال صاحب الكشاف: إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية ** مستودعات وللآباء أبناء

الثاني: أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولودًا على فراشه على ما قال صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» فكأنه قال: إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث: أنه قيل في تفسير قوله: {قَالَ ابن أُمَّ} [طه: 94] أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد، فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة، فكذا هاهنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهًا على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب، فكان نقصه عائدًا إليه، ورعاية مصالحه لازمة له، كما قيل: كلمة لك، وكلمة عليك. اهـ.