فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هو مصدر جعل اسما أي بيضاء لذيذة؛ يقال شراب لذٌّ ولذيذ، مثل نبات غَضٌّ وغضيض.
فأما قول القائل:
ولذٍ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تركتُهُ ** بأرض العِدَا مِنْ خَشيةِ الحَدَثَانِ

فإنه يريد النوم.
وقيل: {بَيْضَاءَ} أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم.
{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي لاتغتال عقولهم، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع.
{وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي لا تذهب عقولهم بشربها؛ يقال: الخمر غَوْل للحِلْم، والحرب غول للنفوس؛ أي تذهب بها.
ويقال: نُزِف الرجلُ يُنْزَف فهو منزوفٌ ونزيفٌ إذا سكر.
قال امرؤ القيس:
وإذ هي تمشِي كمشي النَّزيـ ** ـفِ يَصْرَعُه بالكثيب البَهَرْ

وقال أيضًا:
نَزيفٌ إذا قامتْ لِوجهٍ تمايلت ** تُراشِي الفؤادَ الرَّخْصَ أَلاَّ تَختَّرَا

وقال آخر:
فلثمتُ فاهَا آخِذًا بقرونها ** شُرْبَ النَّزِيفِ ببرد ماءِ الحَشْرَجِ

وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي؛ من أنزف القومُ إذا حان منهم النَّزْف وهو السّكر.
يقال: أحصدَ الزرعُ إذا حان حَصادُه، وأَقطفَ الكرمُ إذا حان قِطافُه، وأَركبَ المهرُ إذا حان ركوبه.
وقيل: المعنى لا ينفدون شرابهم؛ لأنه دأبهم؛ يقال: أَنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره.
قال الحطيئة:
لَعَمْرِي لئن أَنزفتمُ أو صَحَوْتُمُ ** لبئس النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرَا

النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى؛ لأن معنى {يُنْزَفُونَ} عند جِلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم؛ فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر.
ومعنى {يُنْزِفُونَ} الصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة؛ ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدًا.
وقيل: {لاَ يُنْزِفُونَ} بكسر الزاي لا يسكرون؛ ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القُشَيري.
المهدوي: ولا يكون معناه يسكَرون؛ لأن قبله {لاَ فِيهَا غَوْلٌ}.
أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارًا؛ ويسوغ ذلك في الواقعة.
ويجوز أن يكون معنى {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} لا يمرضون؛ فيكون معنى {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} لا يسكَرون أو لا ينفد شرابهم.
قال قتادة: الغول وجع البطن.
وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} قال لا فيها وجع بطن.
الحسن: صداع.
وهو قول ابن عباس {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} لا فيها صداع.
وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول؛ فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.
مجاهد: داء.
ابن كيسان: مغص.
وهذه الأقوال متقاربة.
وقال الكلبي: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي إثم؛ نظيره: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} [الطور: 23].
وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها.
ومنه قول الشاعر:
وما زالتِ الكأَسُ تغتالُنا ** وتَذهبُ بالأولِ الأولِ

أي تصرع واحدًا واحدًا.
وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم.
وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء.
يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية.
ومنه الغَوْل والغِيلة: وهو القتل خفية.
قوله تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف} أي نساء قد قصَرْن طرفهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن إلى غيرهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم.
عكرمة: {قَاصِرَاتُ الطرف} [الرحمن: 56] أي محبوسات على أزواجهنّ.
والتفسير الأوّل أبين؛ لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر {مَّقْصُورَاتٌ} يأتي بيانه.
و{قاصرات} مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره؛ قال امرؤ القيس:
من القاصراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ** من الذَّرِّ فَوْقَ الإتْب منها لأَثَّرا

ويروى: فوق الخد.
والأوّل أبلغ.
والإتب القميص، والمحول الصغير من الذر.
وقال مجاهد أيضًا: معناه لا يَغَرْنَ.
{عِينٌ} عظام العيون الواحدة عيناء؛ وقاله السّدي.
مجاهد: {عِينٌ} حسان العيون.
الحسن: الشديدات بياض العين، الشديدات سوادها.
والأوّل أشهر في اللغة.
يقال: رجل أعين واسع العين بيِّن العَيَن، والجمع عِين.
وأصله فعل بالضم فكسرت العين؛ لئلا تنقلب الواو ياء.
ومنه قيل لبقر الوحش عِين، والثور أعين، والبقرة عيناء.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أي مصون.
قال الحسن وابن زيد: شُبِّهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة وهو أحسن ألوان النساء.
وقال ابن عباس وابن جبير والسدي: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي.
وقال عطاء: شبهن بالسِّحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض.
وسَحَاةُ كل شيء: قشره والجمع سَحًا؛ قاله الجوهري.
ونحوه قول الطبري، قال: هو القشر الرقيق، الذي على البيضة بين ذلك.
وروي نحوه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها؛ قال امرؤ القيس:
وبيضةِ خِدْرٍ لا يرامُ خِباؤها ** تَمتعت من لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلِ

وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطَّى بالريش.
وقيل: المكنون المصون عن الكسر؛ أي إنهن عذارى.
وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ؛ كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22 23] أي في أصدافه؛ قاله ابن عباس أيضًا.
ومنه قول الشاعر:
وهي بيضاءُ مِثلُ لُؤْلُؤة الغـ ** ـوّاصِ مِيزَتْ مِن جَوْهَرٍ مَكْنونِ

وإنما ذكر المكنون والبيض جمع؛ لأنه ردّ النعت إلى اللفظ. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جيء به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلًا وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافًا مضاعفة ممَّا لا وجه له أصلًا لاسيما جعله استثناء متَّصلًا بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقوله تعالى: {أولئك} إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازًا بالغًا منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {لَهُمْ} إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى: {رّزْقِ} مرتفعٌ على الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ، أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدَّمٌ والجملة خبرٌ لأولئك، والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالًا بيانًا تفصيليًّا، وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى: {مَّعْلُومٌ} أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} وقوله تعالى: {فواكه} إمَّا بدل من رزقٌ أو خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ، أي ذلك الرزقُ فواكهُ، وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرَّدِ التَّلذُّذِ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله عزَّ وجلَّ لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا. وقُرئ {مكرَّمون} بالتَّشديدِ {فِي جنات النعيم} أي في جناتٍ ليس فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حال من المستكنِّ في مكرمون، أو خبر ثانٍ لأولئك.
وقوله تعالى: {على سُرُرٍ} محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ. فقولُه تعالى: {متقابلين} حالٌ من المستكنِّ فيه أو في مُكرمون. وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكاية تكامُلِ مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّزَ كونه صفةً لمكرمون {بِكَأْسٍ} بإناء فيه خمر أو بخمرٍ، فإنَّ الكأس تُطلق عن نفس الخمرِ كما في قول مَن قال:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة ** وأخرى تَدَاويتُ منها بها

{مّن مَّعِينٍ} متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ، وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ {بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين} صفتانِ أيضًا لكأسٍ، ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال:
ولذَ كطعمِ الصَّرخديِّ تركتُه ** بأرضِ العِدا مِنْ خيفةِ الحدَثانِ

يريد النَّومَ {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول.
{وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نُرِفَ فماتَ إذا جُرح دمُه كلُّه. أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون. وقُرئ {يُنزفون} بكسر الزَّاي، من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفد عقلُه أو شرابه. وقُرئ {ينزفون} بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما {وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفًا إلى غيرهم {عِينٌ} نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ. اهـ.