فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ}.
معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال:
وَمَا بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا ** أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ

فيقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا. فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتمًا.
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدُّنيا {قَرِينٌ} مصاحب {يِقُولُ} لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث. وقُرئ بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ، والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه، ومنه الحديثُ: «العاقلُ من دانَ نفسَه» وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال: أين مالكُ، قال: تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيرًا منه فقال: أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ، أو المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئًا فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُرابًا وعظامًا حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث {قَالَ} أي ذلك القائلُ بعدما حكى لجلسائه مقالَ قرينهِ في الدُّنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ {فَأَطَّلِعَ} أي عليهم {فَرَءاهُ} أي قرينَه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها. وقُرئ {فأطَّلِعَ} على لفظ المضارع المنصوبِ. وقرئ {مُطَّلعون} {فأطَّلع} و{فأطْلُعَ} بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلانٌ وأطَّلع وبمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطَّلعون إلى القرين فأطَّلع أنا أيضًا أو عوضَ عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّيًا فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه، وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ. وقُرئ {مُطَّلعونِ} بكسر النُّونِ أراده مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصلِ، كقوله:
هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه

أو شُبِّه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي.
{قَالَ} أي القائلُ مخاطبًا لقرينهِ {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتُهلكني بالإغواءِ. وقُرئ {لتُغوينِ} والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشَّأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ إنَّ الشَّأنَ كدت لتردينِ.
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} بالهدايةِ والعصمة {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحًا وابتهاجًا بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ. والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت. وقُرئ: {بمائتينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقًا لقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهلَ الجنَّةِ خلود فلا موتَ ويا أهلَ النَّارِ خلود فلا موتَ يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثًا بنعمة الله تعالى واغتباطًا بها {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضًا نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها {إِنَّ هَذَا} أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه {لَهُوَ الفوز العظيم} وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريرًا لقولهم وتصديقًا له. وقرئ: {لهو الرِّزقُ العظيم} وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى.
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضًا يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ}.
معطوف على {يُطَافُ} [الصافات 45] وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد بن فياض:
وما بقيت من اللذات إلا ** محادثة الكرام على الشراب

ولثمك وجنتي قمر منير ** يجول بوجهه ماء الشباب

وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتمًا وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وفراغ البال.
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاورتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدنيا {قَرِينٌ} مصاحب.
{يِقُولُ} لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله سبحانه: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء؛ وقيل لمسوسون مربوبون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث «العاقل من دان نفسه» وقرئ {المصدقين} بتشديد الصاد من التصدق، واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه: {أَءذَا مِتْنَا} الخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق.
وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضًا فقال صاحبه: اللهم إن فلانًا اشترى بألف دينار أرضًا وإني أشتري منك بألف دينار أرضًا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دارًا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانًا قد ابتنى دارًا بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارًا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلانًا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانًا اشترى خدمًا ومتاعًا بألف دينار وإني أشتري منك خدمًا ومتاعًا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال: فلان قال: نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أئنك لمن المصدقين بهذا اذهب فوالله لا أعطيك شيئًا فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مآل المتصدق الجنة ومآل الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما أخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقًا ومتصدقًا أيضًا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَدِينُونَ} ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبًا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفني نبعث ونجازي، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابًا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه.
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}.
{قَالَ} أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكى لهم مقالة قرينة له في الدنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا على الأعراف فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار؛ وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعًا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل {هَلْ أَنتُمْ} الخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه.
{فَأَطَّلِعَ} أي على أهل النار {فَرَءاهُ} أي فرأى قرينه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب.
وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي {مُّطَّلِعُونَ} بإسكان الطاء وفتح النون {فَأَطَّلِعَ} بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار ابن أبي عمار وأبي سراج، وقرئ {مُّطَّلِعُونَ} مشددًا {فَأَطَّلِعَ} مشددًا أيضًا مضارعًا منصوبًا على جواب الاستفهام.
وقرىء {مطلعون} بالتخفيف {فَأَطَّلِعَ} مخففًا فعلًا ماضيًا و{فَأَطَّلِعَ} مخففًا مضارعًا منصوبًا.
وقرأ أبو البرهسم وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه {مُّطَّلِعُونَ} بتخفيف الطاء وكسر النون {فَأَطَّلِعَ} ماضيًا مبنيًا للمفعول.
ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام: «أو مخرجي هم» ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلًا كما يقال يضربونه وعليه قوله:
هم الآمرون الخير والفاعلونه ** إذا ما خشوا من محدث الدهر معظمًا

وأنشد الطبري قول الشاعر:
وما أدري وظني كل ظن ** أمسلمني إلى قومي شراحي

ومثله قول الآخر:
فهل فتى من سراة الحي يحملني ** وليس حاملني إلا ابن حمال

وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملًا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة، وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل.
وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله:^
وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم.
ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال: إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضًا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلًا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به، وقيل إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفهما للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأمسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع واطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجىء الاطلاع متعديًا يقال أطلعه على كذا فاطلع، و{مُّطَّلِعُونَ} في قراءة أبي عمرو بمعنى {مطلعون} بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبًا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء {فَأَطَّلِعَ} فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضًا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولابد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب {فَرَءاهُ} على ما قبله و{هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} عليه بمعنى الأمر تأدبًا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعلى قراءة أبي البرهسم ومن معه {هل أنتم مطلعي فاطلعوه فرآه} الخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح أن طلع واطلع اطلاعًا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة {أطلع} مبنيًا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي أطلع به لأن أطلع لازم كأقبل وقد علمت أن أطلع يجىء متعديًا كأطلعت زيدًا.
ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل.
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)}.
{قَالَ} أي القائل لقرينه {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتهلكني، وفي قراءة عبد الله {لتغوين} و{إن} مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
وفي البحر أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه.
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} علي وهي التوفيق والعصمة {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك.
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} الخ رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحًا وابتهاجًا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريضًا للقرين بالتوبيخ، وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعًا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، واختير الأول، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة.
وقرىء {بمائتين} {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}.
{إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدًا، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى، وجوز أن يكون منقطعًا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشىء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنةْ {طبتم فادخلوها خالدين} [الزمر: 73] وقولهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ} [الحجر: 46] وقيل إن أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذٍ يعلمونه فيقولون ذلك تحدثًا بنعمة الله تعالى واغتباطًا بها، ولا يخفى أن كون هذا القول المحكي هنا عند علمهم بعدم الموت من ذبحه بعيد في هذا المقام والظاهر أن هذا بعد الاطلاع والكلام مع القرين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كأصحاب النار، والمراد استمرار النفي وتأكيده وكذا فيما تقدم واستمرار هذا النفي نعمة جليلة وهو متضمن نفي زوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات 41] الآيات فإن زوال النعيم نوع من العذاب بل هو من أعظم أنواعه بل تصور الزوال عذاب أيضًا لا يلذ معه عيش، ولذا قيل:
إذا شئت أن تحيا حياة هنية ** فلا تتخذ شيئًا تخاف له فقدا

وكذا يتضمن نفي الهرم واختلال القوي الذي يوهمه نفي الموت فإن ذلك نوع من العذاب أيضًا، وأنه إنما اختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم لأن نفي العذاب أسرع خطورًا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب، وقيل إن ذاك لأن درء الضرر أهم من جلب المنفعة.
{إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} الظاهر أن الإشارة إلى ما أخبروا به من استمرار نفي الموت واستمرار نفي التعذيب عنهم، ويجوز أن تكون إشارة إلى ما هم فيه من النعيم مع استمرار النفيين فإذا كان الكلام من تتمة كلام القائل {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} [الصافات 58] الخ فهو متضمن إشارة ذلك القائل إلى ظهور النعيم ويكون ترك التعرض للتصريح به للاستغناء بذلك الظهور.
وجوز أن يكون هذا كلامه تعالى قاله سبحانه تقريرًا لقول ذلك القائل وتصديقًا له مخاطبًا جل وعلا به حبيبه عليه الصلاة والسلام وأمته والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر.
وقرىء {لَهُوَ الرزق العظيم} وهو ما رزقوه من السعادة العظمى.
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل مثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام فتقديم الجار والمجرور للحصر وهذا إن كان إشارة إلى مشخص من حيث تشخصه فمثل غير مقحمة وإن كان إشارة إلى الجنس فهي مقحمة كما في مثلك لا يبخل والكلام يحتمل أن يكون من تتمة كلام القائل ولا يعكر عليه أن الآخرة ليست بدار عمل إذ ليس المراد الأمر بالعمل فيها ويحتمل أن يكون من كلامه عز وجل. اهـ.