فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)}.
التفسير: إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه، أو هو على عادة العرب، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها، الا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأوصل الثنايا ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وايضًا الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثًا لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل: أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على نسق. الفاعل صاف، والجماعة صافة، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين. قال الحكيم: يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفًا أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس: يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون: أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأبنياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} [الصف: 4] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله.
يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دمًا فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء. الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد، وبعضها دلائل العلم والقدرة، وبعضها دلائل النبوة، وبعضها دلائل المعاد، وبعضها بيان التكاليف والأحكام، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة، وكلها مترتبة ترتيبًا لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات.
وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال: شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله:
الصابح فالغانم فالآيب

كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلًا صفوفًا ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة.
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة؛ فالصافات الطير من قوله: {والطير صافات} [النور: 41] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإِنسانية، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل: الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لو يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال: {رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق} فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين: الأولى تحصيل الزينة، والثانية الحفظ من الشيطان. والزنية مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه: أن يكون مصدرًا مضافًا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر، ويجوز أن يقع {الكواكب} بيانًا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بالتنوين {زينة} وجر {الكواكب} فعلى الإبدال، ومن قرأ بتنوين {زينة} ونصب {الكواكب} فعلى أنه بدل من محل {بزينة} أو من السماء، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة.
قوله: {وحفظًا} فيه وجوه أحدها: أنه محمول على المعنى والتقدير: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظًا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل: وحفظًا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد: إذا ذكرت فعلًا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول: افعل ذلك كرامة أي وأكرمك كرامة، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير: وحفظناها حفظًا. قال المفسرون: الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء في إصغائهم. قال الحكيم: ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبحرة المرتفعة، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضًا إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضًا مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين، ووقوع هذه الحالة أيضًا كالنادر. فلعل المسترق يكون غير واقف عليه، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان نارًا صرفًا، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق.
والضمير في قوله: {لا يسمعون} لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم سمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل: معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله: هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافًا لأن سائلًا لو سأل: لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلامًا منقطعًا مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفًا كأنه قيل: لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا.
ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم أن وأهدر عملها كما في قول القائل:
ألا ايهذا الزاجري أحضر الوغى

ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك جئتك أن تكرمني وحذف أن في قول الشاعر جائز، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت: إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضًا لا يصح إلا بتقدير اللام أو من مع أن. والملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس: أراد أشراف الملائكة. وعنه: الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول: قذفته بحجر أي رميت إليه حجرًا. وقوله: {من كل جانب} أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل: من كل الجوانب.
{دحورًا} أي طردًا مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل: يقذفون قذفًا أو يدحرون دحورًا. ويجوز أن يكون مفعولًا له اي لأجل الدحور أو مصدرًا في موضع الحال أي مدحورين كقوله: {مذمومًا مدحورًا} [الإسراء: 18] {ولهم} أي للشياطين {عذاب واصب} دائم وقد مر في النحل في قوله: {وله الدين واصبًا} [النحل: 52] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع {إلا من خطف} في محل الرفع بدلًا من الواو في {لا يسمعون} أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل: وثب وثبة. وقيل: الاستثناء منقطع خبره {فأتبعه} أي أتبعه ورمى في أثره {شهاب ثاقب} مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل: تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل: لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل: يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين: الأوّل أن يقال: قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فاشار إليه بقوله: {فاستفتهم} أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل: اراد عادًا وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول اقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله: {خلقنا} إكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق، فاستخبرهم أهم أشد خلقًا أم هذه الخلائق، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون. وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله: {إنا خلقناهم من طين لازب} أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس: هو الملتصق من الطين الحر.
وقال مجاهد والضحاك: هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلًا للحياة لم يقبلها من أول الأمر، وإذا قبلها أوّلًا فلا يبقى ريب في قبولها ثانيًا، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال: {بل عجبت} من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث {و} هم {يسخرون} من تعجبك، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل: هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه: قل يا محمد بل عجبت. سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر. سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والستهزاء والمعنى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية {وإن تعجب فعجب قولهم} [الرعد: 5]. عند من يرى أن العجب من الله. وقد جاء في الحديث «يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة» وقال أيضًا: «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته» والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون.
{وإذا رأوا آية} بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات {يستسخرون} يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحصال أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله: {أو آباؤنا} من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم أن، ومن قرأ بفتحها فعليه، أو على الضمير في {مبعوثون} وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى: أيبعث أيضًا آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله: {قل نعم} تبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك {فإنما هي} أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره {زجرة} واحدة يعني صيحة النفخة الثانية {فإذا هم ينظرون} أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم.
{وقالوا يا ويلنا} الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله: {تكذبون} يقوله الكفرة فيما بينهم.
وقيل: إن كلامهم يتم عند قوله: {يا ويلنا} ثم قال الله أو الملائكة {هذا يوم الدين} الجزاء والحساب {هذا يوم الفصل} القضاء والفرق بين المحسن والمسيء {احشروا الذين ظلموا} بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث اي اجمعوهم {وأزواجهم} أي أشكالهم الذي على دينهم وسيرتهم؛ الزاني مع الزاني، والسارق مع السارق، والشارب مع الشارب. وقيل: قرناءهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على ملتهم.
{وما كانوا يعبدون من دون الله} من الأصنام {فاهدوهم} ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم {إلى صراط الجحيم} وسطها أو طريقها لأنه قال بعد ذلك {وقفوهم} اي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكمًا وتوبيخًا بالعجز عن التناصر {ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} قد أسلم بعضهم بعضًا وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون: إن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم {قالوا} لرؤسائهم {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} وفيه وجوه:
الأول: أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعًا وعرفًا. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيآت، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل: أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله.
قال جار الله: من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك أتاه عن اليمين مجازًا في المعنى المذكور.
الثاني: أن يقال: فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم.
الثالث: اليمين الحلف، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم.
الرابع: أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالبًا أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في {قالوا} الأول كان عائدًا إلى الأتباع بقرينة الخطاب، فالضمير في {قالوا} الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا.
{وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قومًا} مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم} [إبراهيم: 22] {فحق علينا قول ربنا إنا لذاقون} قال مقاتل: أراد قوله: {لأملأن جهنم} [الأعراف: 18] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقًا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله: لو حكى الوعيد كما هو لقال: {إنكم لذائقون} ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع {فأغويناكم إنا كنا غاوين} أي أقدمنا على أغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب أغوائنا فغوايتنا إن كانت بسب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضًا من الله كما مر في قوله: {فحق علينا قول ربنا} هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا: {بل لم تكونوا مؤمنين} أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة {فأغويناكم} فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فاردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله: {فإنهم} جميعًا {يومئذ} أي يوم القيامة {في العذاب مشتركون} كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذابًا زائدًا للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء {إنا كذلك} أي مثل ذلك الفعل {نفعل} بكل مجرم أي كافر بدليل قوله: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} يابون من قبوله، والجملة الشرطية خبر كان وهو مع الاسم والخبر خبر أن وإن ألغيت كان فالخبر {يستكبرون} و إذا ظرفه.
{ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} عنوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعًا فردّ عليهم بقوله: {بل جاء} متلبسًا {بالحق وصدّق المرسلين} وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم {فحق علينا قول ربنا} ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلًا {إنكم لذائقوا العذاب الأليم} ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال: {وما تجوزون إلا ما كنتم تعملون} فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صونًا للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة اشبه. والسنيّ يقول: لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله {إلا عباد الله} استثناء منقطع أي لكن عباد الله {المخلصين أولئك لهم رزق} قلت: يجوز أن يكون الاسثناء متصلًا والمعنى: وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف.