فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فجعلهم شيعة لنفسه، وقوله تعالى: {بقلب سليم} قال المفسرون: يريد من الشرك والشك وجميع النقائص التي تلحق قلوب بني آدم كالغل والحسد والكبر ونحوه قال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئًا قط، وقوله: {أئفكًا} استفهام بمعنى التقرير أي أكذبًا ومحالًا {آلهة دون الله تريدون} ونصب {آلهة} على البدل من قوله: {أئفكًا} وسهلت الهمزة الأصلية من الإفك وقوله تعالى: {فما ظنكم} توبيخ وتحذير وتوعد، ثم أخبر تعالى عن نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم، وروي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا إبراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم وأراد البقاء خلافهم إلى الأصنام، وقال ابن زيد عن أبي أرسل إليه ملكهم أن غدًا عيد فاحضر معنا فنظر إلى نجم طالع فقال إن هذا يطلع مع سقمي، فقالت فرقة معنى نظر في النجوم أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، وقال الجمهور نظر نجوم السماء، وروي أن علم النجوم كان عندهم منظورًا فيه مستعملًا فأوهمهم هو من تلك الجهة، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم، واختلف أيضًا في قوله: {إني سقيم} فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك، وقال ابن عباس وغيره: أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا {مدبرين} أي فارين منه، وقال بعضهم بل تولوا {مدبرين} لكفرهم واحتقارهم لأمره.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله: {إني سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم} [الأنبياء: 63] وقوله في سارة هي أختي، وقالت فرقة: ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لابد أن يسقم ضرورة، وقيل أراد على هذا {إني سقيم} النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقمًا بالجسد حاضرًا وهكذا هي المعاريض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر، والكذب الذي هو قصد قول الباطل، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم.
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)}.
{راغ} معناه مال، ومنه قول عدي بن زيد: الخفيف:
حيث لا ينفع الرياغ ولا ** ينفع إلا المصلق النحرير

وقوله تعالى: {ألا تأكلون} هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام، وروي أن عادة أولئك كانت أنهم يتركون في بيوت الأصنام طعامًا، ويعتقدون أنها تصيب منه شميمًا ونحو هذا من المعتقدات الباطلة، ثم كان خدم البيت يأكلونه، فلما دخل إبراهيم وقف على الأكل، والنطق والمخاطبة للأصنام والقصد الاستهزاء بعابدها، ثم مال عند ذلك إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذًا واختلف في معنى قوله: {باليمين} فقال ابن عباس: أراد يمنى يديه، وقيل: أراد بقوته لأنه كان يجمع يديه معًا بالفأس، وقيل أراد يمين القسم في قوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 57] و{ضربًا} نصب على المصدر بفعل مضمر من لفظه، وفي مصحف عبد الله عليهم {صفعًا باليمين} والضمير في {أقبلوا} لكفار قومه، وقرأ جمهور الناس {يَزفون} بفتح الياء من زف إذا أسرع وزفت الإبل إذا أسرعت، ومنه قول الفرزدق: الطويل:
فجاء قريع الشول قبل افالها ** يزف وجاءت خلفه وهي زفف

ومنه قول الهذلي:
وزفت الشول من برد العشيّ كما ** زفت النعام إلى حفانه الروح

وقرأ حمزة وحده {يُزفزن} بضم الياء من أزف إذا دخل في الزفيف وليست بهمزة تعدية هذا قول، وقال أبو علي: معناه يحملون غيرهم على الزفيف، وحكاه عن الأصمعي وهي قراءة مجاهد وابن وثاب والأعمش، وقرأ مجاهد وعبد الله بن زيد {يَزفزن} بفتح الياء وتخفيف الفاء من وزف وهي لغة منكرة، قال الكسائي والفراء: لا نعرفها بمعنى زف، وقال مجاهد: الزفيف النسلان، وذهبت فرقة إلى أن {يزفون} معناه يتمهلون في مشيهم كزفاف العروس، والمعنى أنهم كانوا على طمأنينة من أن ينال أحد آلهتهم بسوء لعزتهم فكانوا لذلك متمهلين.
قال القاضي أبو محمد: وزف بمعنى أسرع هو المعروف، ثم إن إبراهيم عليه السلام قال لهم في جملة محاورة طويلة قد تضمنتها الآية {أتعبدون ما تنحتون} أي تجعلون إلهًا معظمًا شيئًا صنعتموه من عود أو حجر وعملتموه بأيديكم أخبرهم بخبر لا يمكنهم إنكاره وهو قوله: {والله خلقكم} واختلف المتأولون في قوله: {وما تعملون} فمذهب جماعة من المفسرين أن {ما} مصدرية والمعنى أن الله خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد وذلك موافق لمذهب أهل السنة في ذلك، وقالت {ما} بمعنى الذي، وقالت فرقة {ما} استفهام، وقالت فرقة هي نفي بمعنى وأنتم لا تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا قبله، ولا تقدرون على شيء.
قال القاضي أبو محمد: والمعتزلة مضطرة إلى الزوال عن أن تجعل {ما} مصدرية، و{البنيان} قيل كان في موضع إيقاد النار، وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه وقد تقدم قصص نار إبراهيم وجعلهم الله {الأسفلين} بأن غلبوا وذلوا ونالتهم العقوبات. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} يعني أَنَّ إبراهيم مِنْ شيعة نوح عليه السلام في التوحيد- وإنْ اختلفنا في فروع شرعيهما.
{قلب سليم} لا آفة فيه. ويقال لديغ مِنَ المحبة. ويقال: سليم من محبة الأغيار. ويقال سليم من حُظوظ نفسه وإرادته. ويقال: مستسلم لله في قضائه واختياره.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)}.
سألهم على جِهة الإنكار عليهم، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم.
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}.
إذا لقيتموه- وقد عَبْدتم غيرَه.. فما الذي تقُولون له؟ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم- غافلين عنه؟
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}.
قيل أراد إلى النجوم فأقام في مقامَ إلى.
{إنِّى سَقِيمٌ} كانت تأتيه الحمَّى في وقت معلوم، فقال: قرُبَ الوقتُ الذي أسقم فيه مَنْ أخذِ الحمَّى إياي، فكأنه تعلل بذلك ليتأخرَ عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نَفْسه من كسر الأصنام.
ويقال كان ذلك من جملة المعاريض. وقيل أرى من نفسه موافقة قَوْلهم في القول بالنجوم لأنهم كانُوا يقولون بالنجوم، فتأخر بهذا السبب عنهُم.
وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنَّ اللَّهَ- عزّ وجلّ- قد عرّفه بطريق الوحي أنه يخلق سبحانه باختياره أفعالًا عند حركات الكواكب.
ثم لمَّا ذَهبوا إلى عيدهم كَسَّرَ أصنامهم، فلمَّا رجعوا قالوا ما قالوا، وأجابَهُمْ بما أجابهم به إلى قوله: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)}.
رَدّ اللَّهُ كيدهُم إلى نُحورهم. وقد تعرَّضَ له جبريلُ عليه السلام وهُوَ في الهواء وَقَد رُمي من المنجنيق فعرَضَ عليه نفسه قائلًا: هل مِنْ حاجة؟ فأجابَ: أَمَّا إليكَ فلا!. اهـ.

.تفسير الآيات (99- 102):

قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد، عطف عليه قوله: {وقال} أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكدًا لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به: {إني ذاهب} أي مهاجر من غير تردد، قالوا: وهو أول من هاجر من الخلق {إلى ربي} أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه.
ولما كان حال سامعه جديرًا بأن يقول: من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح، وما تفعل في التوصل إليه؟ قال: {سيهدين} أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلًا يهدي إليه، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الأسراء: 1] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات: إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق- يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لابد من ذلك- وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولًا، ثم أخبر أنه قال: {رب أرني} فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعين جمع الجمع- لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل، بل هو المراد إلى أن قال: {لنريه من آياتنا} فهذا هو الفناء حتى عن الفناء، ثم قال: {أنه هو السميع البصير} فأثبت له مع ذلك الكمال.
ولما لم يجد له معينًا على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام، قال مناديًا مناداة الخواص بإسقاط الأداة: {رب} أي أيها المحسن إلي {هب لي من} أي ولدًا من {الصالحين} وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له {فبشرناه بغلام} أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة.
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال: {حليم} أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة، لأنه في غاية الرزانة والثبات، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم، والحلم لا يكون إلا بعد العلم، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم، وهو اتساع الصدر لمساوىء الخلق ومدانىء أخلاقهم، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوه: منها وصفه بالحليم، ووصف إسحاق عليه السلام في سورة الحجر بالعليم، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شابًا يرجو الولد، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله»، والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعًا، ولأن هذه السورة سورة التنزيه، فأحق الناس بالذكر فيها- كما سلف- أعرق الناس في قدم التجريد، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملًا إلى أن عولج ذبحه، ولم يذكر ظاهرًا، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة- التي حالها هذا- من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه، وما كان ذكره إلا لبيان جزاء إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء- والله الموفق.
ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف، كان التقدير: فولد له غلام كما قلنا {فلما بلغ} أن يسعى كائنًا {معه} أي مع أبيه خاصة ومصاحبًا له {السعي} الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معًا حد السعي، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم: ثلاث عشرة سنة، وبعضهم: سبع سنين، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه، وهو لم يبلغ كمال السعي {قال} أي إبراهيم عليه السلام: {يا بني} مناديًا له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب، ذاكرًا له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصورًا له، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته، وإعلامًا بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام: {إني أرى في المنام} أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي {أني أذبحك} أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال، ولو عبر بالماضي لمضى وتم، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جدًا ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال.
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم، أحب أن يرى ما عنده، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده، ولتكون المشاورة سنة، فإنه ما ندم من استشار سبب عن ذلك قوله: {فانظر} بعين بصيرتك {ماذا} أي ما الذي {ترى} أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له {قال} تصديقًا لثناء الله عليه بالحلم: {يا أبت} تأدبًا معه بما دل على التعظيم والتوفير {افعل ما تؤمر} أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك، ولا أتهم الله في قضائه، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند {ءأنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة: 6].
ولما علم طاعته، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره، فاستأنف قوله: {ستجدني} أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: {إن شاء الله} أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله: {من الصابرين} أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، وهو من أعظم ما أريد بقوله: {وكان صادق الوعد} [مريم: 54].
ولو بيد الحبيب سقيت سمًا ** لكان السم من يده يطيب

وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نومًا ويقظة، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى. اهـ.