فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عَزَب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذبيح إسماعيل والأوّل أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين.
واحتجوا بأن اللّه عز وجل قد أخبر إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة وابن أخيه لوط فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات 99] أنه دعا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فقال تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49]؛ ولأن اللّه قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بُشِّر به إبراهيم وإنما بُشِّر بإسحاق؛ لأنه قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} وقال هنا: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وذلك قبل أن يتزوّج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بُشر بولد إلا إسحاق.
احتج من قال إنه إسماعيل: بأن اللّه تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54]؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفّى به؛ ولأن اللّه تعالى قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيًّا، وأيضًا فإن اللّه تعالى قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب.
وإيضًا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدلّ على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس.
وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع؛ أما قولهم: كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأن يكون نبيًّا، فإنه يحتمل أن يكون المعنى: وبشرناه بنبوّته بعد أن كان من أمره ما كان؛ قاله ابن عباس.
وسيأتي.
ولعله أُمِر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحق يعقوب.
ويقال: لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحق.
وأما قولهم: ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدّم.
وقال الزجاج: اللّه أعلم أيهما الذبيح.
وهذا مذهب ثالث.
الثانية قوله تعالى: {قَالَ يا بني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات.
وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من اللّه تعالى أيقاظًا ورقودًا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم.
وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» وقال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وَحْيٌ واستدل بهذه الآية.
وقال السّدي: لما بُشِّر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد قال هو إذًا لله ذبيح.
فقيل له في منامه: قد نذرت نذرًا فَفِ بنذرك.
ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلًا يقول: إن اللّه يأمرك بذبح ابنك؛ فلما أصبح رَوَّى في نفسه أي فَكَّر أهذا الحُلْم من اللّه أم من الشيطان؟ فسمّي يوم التَّرْوية.
فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضًا وقيل له الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من اللّه فَسُمِّيَ يوم عرفة.
ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فَهمَّ بنحره فسُمِّي يوم النَّحْر.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل: اللّه أكبر اللّه أكبر.
فقال الذبيح: لا إله إلا اللّه واللّه أكبر.
فقال إبراهيم: اللّه أكبر والحمد للّه؛ فبقي سُنة.
وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأَمر وهي:
الثالثة فقال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح، ولو وقع لم يُتصوَّر رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفِداء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى: {سَيَهْدِينِ} أي إلى ما فيه صلاحُ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السَّلامُ حيث قال: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ.
{رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّدًا بالأخوةِ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيًّا} ولقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} فإنَّه صريح في أنَّ المبشَّر به عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ: بشارةُ أنَّه غلامٌ وأنَّه يبلغُ أوانَ الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليمًا، وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرضَ عليه أبُوه الذَّبحَ فقال: {قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك.
والفاءُ في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلًا على شهادةِ الحال وإيذانًا بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبةَ أنْ يسعى معه في أشغالهِ وحوائجهِ. ومعه متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معًا كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسيغُه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً.
{قَالَ} أي إبراهيمُ عليه السَّلامُ {قَالَ يا بنى إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلًا يقول له: إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ، فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ.
وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال: إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له: أوفِ بنذرك. والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحاق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «أنا ابنُ الذَّبيحين» فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولدًا أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة. وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحاقُ ثمَّة ولأنَّ بشارة إسحاق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقًا. وما رُوي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلامُ سُئل أيُّ النَّسب أشرفُ؟ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ إسرائيلَ اللَّهِ ابنِ إسحاقَ ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال يوسفُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيم والزَّوائدُ من الرَّاوي، وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت: وقُرئ {إنِّيَ} بفتح الياءِ فيهما.
{فانظر مَاذَا ترى} من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزولهِ. وقُرئ {ماذا تُري} بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنيًا للمفعولِ {قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلًا على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوبًا بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به أمرًا. وقُرئ {ما تؤمر به} وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابًا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف، والمراد بذلك المكام الشام، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي {سَيَهْدِينِ} إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي.
والسين لتأكيد الوقوع لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه، وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال: {عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} [القصص: 22] بصيغة التوقع قيل: لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية، وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله: إني الخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانًا إنه يموت في النار إذا ألقى فيها وأراد بقوله: {سيهديني} الهداية إلى الجنة، ويدفع هذا القول دعاؤه بالولد حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)}.
بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، والتقدير ولدًا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها في القرآن وكلام العرب غلب استعمالها مع العقلاء في الأولاد، وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَخَاهُ هارون نَبِيًّا} [مريم: 53] من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر.
ولقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}.
فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفًا في حق الأولاد، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وإغضاء في كل أمر، وجوز أن يكون ذلك مفهومًا من قوله تعالى: {غُلاَمٌ} فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عامًا وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليمًا وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} [الصافات 102] فما ظنك به بعد بلوغه، وقيل مانعت الله تعالى نبيًا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما السلام، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما.
والفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلًا على شهادة الحال وإيذانًا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و{مَّعَ} ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث، أما أولًا: فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف، وأما ثانيًا: فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به، وأما ثالثًا: فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره.
وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفًا كان المصدر أو منكرًا كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني، واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالًا من {السعى} أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنًا معه، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام، وجوز تعلقه ببلغ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معًا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقًا بأخلاقه متطبعًا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالًا من فاعل {بَلَغَ} ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس {أَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين} [النمل: 44] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية.
وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلًا، وتقديم {مَّعَ} إشعارًا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، قال صاحب الكشف: وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دوعته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معًا على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى.
وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه.
وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أو أنه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان {قَالَ يَاءادَمُ بَنِى إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها، ويحتمل أنه رأى ما تأويل ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير إنهار الدم فأني أذبحك إني أعالج ذبحك، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلًا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأي مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع بقوله: {إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلًا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانًا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة الخ فالأمر إما منامًا وإما يقطة لكن وقع تأكيدًا لما في المنام إذ لا محيص عن الايمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقطة أيضًا.