فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}.
يقال إنه طلبَ هداية مخصوصة؛ لأنه كان صاحب هداية، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه. ويحتمل أنه كان صاحبَ هدايةٍ في الحال وطلبَ الهداية في الاستقبال أي زيادةً في الهداية. ويقال طلبَ الهداية على كيفية مراعاة الأدَب في الحضور، ويقال طلبَ الهداية إلى نفسه لأنه فقدَ فيه قلبه ونفسه فقال سيهديني إليَّ لأقومَ بحقِّ عبُوديته؛ فإن المستهلكَ في حقائق الجمع لا يصحُّ منه أداء العبادة إلاَّ بأن يُردَّ إلى حَالة التفرقة والتمييز.
ومعنى {إِلَى رَبِّى} أي إلى المكان الذي يُعْبدُ فيه ربي.
ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال: {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} فأخْبر عن قوله.
وأخبر عن موسى فقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنا} [الأعراف: 143]، فأخبر عن صفته لا عن قوله.
وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]. فأخبر عن ذاته سبحانه.
وفصلٌ بَينَ هذِه المقامات؛ فإبراهيم كان بعين الفرق، وموسى بعينِ الجمع؛ ونبينا كان بعين جمع الجمع.
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}.
لمّا قال: {حليم} نبَّهَ على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد، رأى إبراهيم- عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية، وسميت كذلك لأنه كان يُروَّي في ذلك طولَ يومه. هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق، فسمي يوم عرفة.
وكان إسماعيل ابنَ ثلاث عشرة سنة، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات.
أن اذبح ابنك، فقال لإسماعيل: {يَآ بُنَىَّ إِنِّى أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} فقال إسماعيل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل، فإن كان هَذا أمرًا فافعل بمقتضاه، وإن كان له تاويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ لوكن لا يمكنك تلافيه.
ويقال بل قال: أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر، وأحملْ الأمر عَلَى الوجوب، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ.
ويقال قال له: إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبي أن يذبحنى أبي لأجل الله.
ويقال قال إسماعيل لأبيه: انتَ خليلُ الله وتنام.. أَلَمْ تعلَمْ أن الخليلَ إذا نام عن خليله يُؤْمَرُ بِذَبْح ابنه؟ مَالَكَ يا أَبَتِ والنوم؟
ويقال في القصة: إنه رآه ذات يوم راكبًا على فَرَسٍ أشهب فاستحسنه، ونَظَرَ إليه بقلبه، فأُمِرَ بِذَبْحِه، فلمَّا أخرجه عن قلبه، واستسلم لذبحه ظَهَرَ الفداء، وقيل له كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك عنه.
ويقال في القصة: أَمَرَ إسماعيلُ أباه أن يَشُدُّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذَّبح فَيُعاتَب، ثم لمَّا همَّ بِذَبْحِه قال: افتحْ القيدَ عني حتى لا يقال لي: أمشدودَ اليد جئتني؟ وإني لن أتحركَ:
ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًَّا ** لكان السُّمُّ من يدِهِ يطيب

ويقال أيهما كان أشدَّ بلاءً؟ قيل: إسماعيل؛ لأنه وَجَد الذَّبحَ من يد أبيه، ولم يتعوَّد من يده إلاَّ التربية بالجميل، وكان البلاءُ عليه أشدَّ لأنه لم يتوقع منه ذلك.
ويقال بل كان إبراهيم أشدَّ بلاءً لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعدَه.
{سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فلم يأتِ إسماعيل بالدعوى بل تأدَّب بلفظ الاستثناء.
ويقال لو قال إسماعيل إمَّا لا تَقُلْ: {يا بُنَيَّ} بهذه اللطافة، وإمَّا لا تَقُلْ: {أَنِّى أَذْبَحُكَ} فإنَّ الجمعَ بينهما عجيب!. اهـ.

.قال السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ إسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا وَصْفُهُ بِالْحِلْمِ وَذِكْرُ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ بَعْدَهُ، وَالْبِشَارَةُ بِيَعْقُوبَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهِيَ أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ، وَتَأَمَّلْت الْقُرْآنَ فَوَجَدْت فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ.
وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إلَى اسْتِنْبَاطِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْبِشَارَةَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي قَوْلِهِ: {إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} فَهَذِهِ الْآيَةُ قَاطِعَةٌ فِي أَنَّ هَذَا الْمُبَشَّرَ بِهِ هُوَ الذَّبِيحُ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِيهَا إِسْحَاقُ، وَلَمْ تَكُنْ بِسُؤَالٍ مِنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ قَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنَّهَا عَجُوزٌ، وَإِنَّهُ شَيْخٌ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشَّامِ لَمَّا جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ إلَيْهِ بِسَبَبِ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي أَوَاخِرِ أَمْرِهِ.
وَأَمَّا الْبِشَارَةُ الْأُولَى فَكَانَتْ لَمَّا انْتَقَلَ مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ سِنُّهُ لَا يُسْتَغْرَبُ فِيهِ الْوَلَدُ.
وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا بِشَارَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ بِغُلَامَيْنِ.
إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ سُؤَالٍ وَهِيَ بِإِسْحَاقَ صَرِيحًا، وَالثَّانِيَةُ كَانَتْ بِسُؤَالٍ وَهِيَ بِغَيْرِهِ، فَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَهُوَ الذَّبِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَرُدُّ هَذَا قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} وَوَجْهُ الْإِيرَادِ ذِكْرُ هِبَةِ إِسْحَاقَ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ.
لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ لُوطًا وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هُوَ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي قِصَّةِ لُوطٍ نَاسَبَ ذِكْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ، وَالْبِشَارَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لِلُوطٍ فِيهَا ذِكْرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.تفسير الآيات (103- 113):

قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وثق منه، بادر إلى ما أمر به، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال: {فلما أسلما} أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك {وتلّه} أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعًا جيدًا سريعًا مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع على فقال: {للجبين} أي أحد شقي الجبهة، وهي هيئة إضجاع ما يذبح، وهذا من قولهم: تله- إذا صرعه، وبه سمي التل من التراب، وتلك فلانًا في يدك أي دفعته سلمًا، والجبين- قال في الصحاح: فوق الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
ولما كان من الواضح أن التقدير جوابًا لما عالج ذبحه بعزم أمضى من السنان، وجنان في ثباته أيما جنان، فمنعناه من التأثير بقدرتنا، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا، عطف عليه قوله: {وناديناه} وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال: {إن يا إبراهيم} ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال: {قد صدقت} أي تصديقًا عظيمًا {الرؤيا} في أنك تذبحه، فإنك قد عالجت ذلك، وبدلت الوسع فيه، وفعلت ما رأيته في المنام، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا.
ولما كان التقدير: فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب، وجعلناك إمامًا للمتقين، ووهبناك لسان صدق في الآخرين، وجعلنا آلك هم المصطفين، وملأنا منهم الخافقين، علله بأن ذلك سنته دائمًا قديمًا وحديثًا فقال ما يأتي.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في همة الذبح وعزمه، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك، لا تسكن عن ثورانها، ولا تبرد عن غليانها وفورانها، إلا بأمر شديد، وقول جازم أكيد، قال مؤكدًا تنبيهًا على أن همته قد وصلت إلى هذا حده، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي: {إنا كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين}.
ولما كان جزاءه عظيمًا جدًا، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجبًا ومعظمًا مؤكدًا تنبيهًا على أنه خارق للعادة: {إن هذا} أي الأمر والطاعة فيه {لهو البلاؤا} أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائنًا ما كان {المبين} أي الظاهر في بابه جدًا المظهر لرائيه انه بلاء.
ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه، ومن البشارة بالجزاء، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام، وهو يعالج إتلافه، جعل تعالى نفسه المقدس فاديًا لأن الفادي من أعطى الفداء، وهو ما يدفع لفكاك الأسير، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفًا له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال: {وفديناه} أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفًا له {بذبح} أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعًا للذبح، وهو كبش من الجنة، قيل: إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه {عظيم} أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول دينًا إلى آخر الدهر.
ولما كان سبحانه إذا منّ بشيء علم أنه عظيم، فإذا ذكر الفعل وترك المفعول أراد فخامته وعظمته، قال: {وتركنا عليه} أي على الذبيح شيئًا هو في الحسن بحيث يطول وصفه.
ولما كان بحيث لا ينسى قال: {في الآخرين} ومن هذا الترك ما تقدم من وصفه بصدق الوعد، لأنه وعد بالصبر على الذبح فصدق.
ولما عظم الغلام، استأنف تعظيم والده بما يدل مع تشريفه على سلامته بقوله: {سلام على إبراهيم} أي سلامة له ولولده وتسليم وتحية وتكريم في الدارين ولما كان هذا خطابًا لمن بعده عليه السلام وهم كلهم محبون مجلون معظمون مبجلون لم يكن هناك حال يحوج إلى تأكيد فقال: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} من غير أن يذكر أن المؤكدة، ولما كانت أهل الملل كلها متفقة على حبه، وكان كلهم يدعي اتباعه ورتبة قربه، قال معللًا لجزائه بهذا المدح في سياق التأكيد استعطافًا لهم إلى اتباعه في الإيمان وتكذيبًا لمن ينكر أن يكون الإيمان موجبًا للإحسان: {إنه من عبادنا} أي الذين يستحقون الإضافة في العبودية والعبادة إلينا {المؤمنين} فلا يطمع أحد عري عن الإيمان في رتبة أتباعه، قال الرازي: الإيمان المطلق الحقيقي شهود جلال الله ووحدانيته والطمأنينة إليه في كل محبوب ومكروه، وترك المشيئة لمشيئته والانقياد لأمره في جميع أحواله.
ولما أتم قصته في أمر الذبيح، وشرع في ذكر ما جازاه به على ذلك، جعل منه أمر إسحاق عليه السلام فقال: {وبشرناه} أي جزاء على صبره في المبادرة إلى امتثال الأمر في إعدام إسماعيل عليه السلام {بإسحاق} مولودًا زيادة له بعد ما سلمنا إسماعيل عليه السلام حال كونه {نبيًا} أي في قضائنا أو بوجوده مقدرة نبوته.
ولما كان هذا اللفظ قد يطلق على المتنبىء، أزال إشكال هذا الاحتمال وإن كان واهيًا بقوله: {من الصالحين} أي العريقين في رتبة الصلاح ليصلح لأكثر الأوصاف الصالحة.
ولما أثنى على إبراهيم عيله السلام بما عالج مما لم يحصل لغيره مثله، وكان من أعظم جزاء الإنسان البركة في ذريته قال: {وباركنا عليه} أي على الغلام الحليم وهو الذبيح المحدث عنه الذي جر هذا الكلام كله الحديث عنه، وكان آخر ضمير محقق عاد عليه الهاء في {وفديناه} ثم في {وتركنا عليه في الآخرين} وهذا عندي أولى من إعادة الضمير على إبراهيم عليه السلام لأنه استوفى مدحه، ثم رأيت حمزة الكرماني صنع هكذا وقال: حتى كان محمد صلى الله عليه وسلم والعرب من صلبه.
{وعلى إسحاق} أي أخيه، قال حمزة الكرماني: حتى كان إسرائيل الله والأسباط من صلبه، وقال غيره: خرج من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليه السلام.
{ومن ذريتهما} أي الأخوين ولا شك أن هذا أقرب وأقعد من أن يكون الضمير للأب والابن لأن قران الأخوين في الإخبار عن ذريتهما أولى من قران الابن مع أبيه في ذلك، فيكون الابن حينئذ من جملة المخبر عنه بذرية الأب {محسن وظالم لنفسه} حيث وضعها بما سبب عن المعاصي في غير موضعها الذي يحبه، وهذا مما يهدم أمر الطبائع حيث كان البر يوجد من الفاجر والفاجر يوجد من البر.