فصل: الإسرائيليات والموضوعات في حديث: «أنا ابن الذبيحين»:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان الإنسان، وإن اجتهد في الإحسان، لابد أن يحتاج إلى الغفران، لما له من النقصان، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال: {مبين} وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} «ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة» {وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31].
قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوارة وبيان أنهم بدلوها، قال مترجمهم: فغرس إبراهيم ببئر سبع غرسًا، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين، وسكن إبراهيم أرض فلسطين- يعني عند تلك البئر- أيامًا كثيرة.
ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم، وقال له: يا إبراهيم! فقال: لبيك، فقال له: انطلق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين- وفي نسخة: إلى بلدة العبادة- وأصعده إليّ قربانًا على أحد تلك الجبال الذي أقول لك، فأدلج إبراهيم باكرًا فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه، وشق حطبًا للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه: امكثا هاهنا عند الحمار، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب القربان، وحمله إسحاق ابنه، وأخذ معه نارًا وسكينًا، وانطلقا كلاهما جميعًا، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم: يا أبة، فقال له: لبيك، فقال له: هذه النار والحطب، أين حمل القربان، فقال إبراهيم: الله يعد لنا حملًا للقربان يا بني، فانطلقا جميعًا حتى انتهيا إلى الموضع الذي قال الله، فبنى هنالك إبراهيم مذبحًا ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال: يا إبراهيم يا إبراهيم، فقال: لبيك! فقال: لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئًا لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذا لم تمنعني ابنك الوحيد، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قربانًا بدل ابنه اسحاق، فسمى إبراهيم ذلك الموضع الله يتجلى كما يقال: الله في هذا الجبل، الله يتجلى، فدعا ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: بي أقسمت، يقول الرب: بدل ما صنعت هذا الصنيع ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي أعدائي وفي نسخة: أعداءه- ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعًا إلى بئر السبع وأقام ثمًّ- وفي نسخة: وسكن إبراهيم بئر السبع- انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك، لأن الكلام ينقض بعضه بعضًا، وذلك أنه قال في هذه القصة انطلق بابنك الوحيد وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيدًا ساعة من الدهر، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوراة، وقوله في آخر القصة ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد صلى الله عليه وسلم أحدًا من الأمم على عبادة غير الله- هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضى الله عنها لإبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان بعشر سنين، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لإبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة، ثم قال ما نصه: وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعبًا، فقالت لإبراهيم عليه السلام: أخرج هذه الأمة عني، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك، فغدا إبراهيم عليه السلام باكرًا وأخذ خبزًا وإداوة من ماء، فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام- إلى آخر ما في البقرة فقوله إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل لا يصح، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة، وتقدم أيضًا أن سارة أمرته بطردها وهي حبلى، وأنه سلمها لها فطردتها، وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل ولم يذكر في نسختي- وهي قديمة جدًا- شيئًا يدل على رجوعها، وأما في نسخة عندهم فقال: إن الملك قال لها: ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها- ولم يذكر أنها رجعت، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام، عند البيت الحرام وهو يرضع، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضى الله عنها، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام، وقوله لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام غير مطابق للواقع، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام أن لم تكم أن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها، وخبر الله لا يتخلف، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها، فلا متمسك فيها لهم، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد- والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي: قال القرظي يعني محمد بن كعب-: سأل عمر بن عبد العزيز رجلًا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه: أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل يا أمير المؤمنين! إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله بذبحه ما كان، ويزعمون أنه أبوهم، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: والذين نفسي بيده! لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح: إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه- انتهى ما قال البغوي.
وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان- وهو الحجبي- رضى الله عنه: «إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضى الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليًا»- هكذا قال: عثمان بن شيبة، ولعله ابن طلحة، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شيبة وهما، أو يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فأنقلب- والله أعلم، وروى عبد الرزاق أيضًا عن ابن جريح قال: أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش؟ قال: نعم، كانا فيه، قلت: أرأيتهما؟ قال: حسبت، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآهما، قال: وغيره قد رآهما فيه، قال: ويقولون: إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام، قال ابن جريج وقالت صفية ابنة شيبة: كان فيه قرنا الكبش، قال ابن جريح: وحدثت أن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانا فيه.
قال: وحدثت عن عجوز قلت: رأيتهما فيه، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضى الله عنه حكاه عن ابن الجوزي، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال: إن القائلين بأنه إسحاق: عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضى الله عنه م، وبأنه إسماعيل: ابن عمر، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس- رضى الله عنهما، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل، لأن ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضى الله عنه م أجمعين، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه- والله أعلم. اهـ.

.الإسرائيليات والموضوعات في حديث: «أنا ابن الذبيحين»:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن ذلك: ما ذكره الزمخشري في كشافه، وتبعه النسفي في تفسيره، وغيرهما، عند قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} الآيات فقد ذكرا في الاستدلال على أن الذبيح: إسماعيل؛ ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا ابن الذبيحين» يعني جده الأعلى: إسماعيل، وأباه: عبد الله بن عبد المطلب.
وهذا الحديث لا يثبت عند المحدثين، قال الإمامان: الزيلعي، وابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: لم نجده بهذا اللفظ، وقال الحافظ العراقي: إنه لم يقف عليه، ولا يعرف بهذا اللفظ، وأما حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالبا العطاء: فقال فيما قال: «فعد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه»، فهو حديث حسن، بل صححه الحاكم، وقد ورد من طرق عدة يقوي بعضها بعضا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى: {وناديناه أَن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني: الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءًا أعاد الله التأليف إليه، فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث: وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصًا معينًا بإيقاع فعل معين في وقت معين، فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن، فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح، فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين، لأنه تعالى إن كان عالمًا بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالمًا به لزم جهل الله تعالى الحسن، وإن لم يكن عالمًا به لزم جهل الله تعالى وإنه محال، فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب: عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح.
أما قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المنام.
وأما قوله ثانيًا كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءًا أعاد الله تعالى التأليف إليه، فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به.
وأما قوله ثالثًا إنه يلزم، إما الأمر بالقبيح وإما الجهل، فنقول هذا بناءً على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسنًا في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحًا في ذاته، وذلك بناءً على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل، وأيضًا فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسنًا وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسنًا ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده، فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني، ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة، ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل، بل أن يوطن العبد نفسه على الانقياد والطاعة، ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف، فكذا ههنا، فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم.
المسألة الرابعة:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه، أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى.
وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع، وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه، وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح، والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح، وثبت أنه تعالى ما أراده، وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة، والله أعلم.
المسألة الخامسة:
في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه الأول: أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد أولًا في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق، ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فحينئذٍ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئًا فشيئًا الثاني: أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقًا، قال الله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم:
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} [الفتح: 27] وقال عن يوسف عليه السلام: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقال في حق إبراهيم عليه السلام: {إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} [الصافات 102] والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال، والله أعلم.
ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} ثم وقع ذلك الشيء بعينه، ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة، ومنها ما يقع على ضرب من التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام، فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة.
المسألة السادسة:
قرأ حمزة والكسائي: {تَرَى} بضم التاء وكسر الراء، أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم؟ وقيل ما تشير، والباقون بفتح التاء، ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل.