فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال: أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هديٌ.
قال: ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراده فلا شيء عليه.
قال: ومن جعل ابنه هَدْيًا أهدى عنه؛ قال القاضي ابن العربي: يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة؛ لأن اللّه تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعًا، فألزم اللّه إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة.
وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة؛ لأن اللّه تعالى قال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] والإيمان التزام أصليّ، والنذر التزام فرعيّ؛ فيجب أن يكون محمولًا عليه.
فإن قيل: كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز.
قلنا: هذا اعتراض على كتاب اللّه، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام، وقد قال اللّه تعالى: {افعل مَا تُؤْمَرُ} والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك: أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال؛ فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء، ولهذا قال اللّه تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} [الصافات 106] في الصبر على ذبح الولد والنفس، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية.
فإن قيل: كيف يصير نذرًا وهو معصية.
قلنا: إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء؟ فإن قيل: فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء؟ قلنا: لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره؛ لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعًا.
الخامسة عشرة قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أي على إبراهيم ثناء جميلًا في الأمم بعده؛ فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه.
وقيل: هو دعاء إبراهيم عليه السلام {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84].
وقال عكرمة: هو السلام على إبراهيم أي سلامًا منا.
وقيل: سلامة له من الآفات مثل {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ في الْعَالَمِينَ} حسب ما تقدّم.
{كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة إلى اللّه تعالى.
السادسة عشرة قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصالحين} قال ابن عباس: بشر بنبوّته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين؛ فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوّته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له.
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} أي ثَنَّينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما؛ أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه.
وقد قيل: إن الكناية في {عَلَيْهِ} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح.
قال المفضل: الصحيح الذي يدلّ عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أنه قص قصّة الذبيح، فلما قال في آخر القصّة: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ثم قال: {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصالحين وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} أي على إسماعيل {وَعَلَى إِسْحَاقَ} كنى عنه؛ لأنه قد تقدّم ذكره ثم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا} فدّل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة.
قلت: قد ذكرنا أوّلًا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، وأن المبشَّر به، هو إسحاق بنص التنزيل؛ فإذا كانت البشارة بإسحاق نصّا فالذبيح لا شك هو إسحاق، وبُشِّر به إبراهيم مرتين؛ الأولى بولادته والثانية بنبوّته؛ كما قال ابن عباس.
ولا تكون النبوّة إلا في حال الكبر و{نَبِيًّا} نصب على الحال والهاء في {عليهِ} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه.
وأما ما روى عن طريق معاوية قال: سمعت رجلًا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن الذبيحين؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال معاوية: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم، نذر للّه إن سهّل عليه أمرها ليذبحن أحدَ ولده للّه، فسهّل اللّه عليه أمرها، فوقع السهم على عبد اللّه، فمنعه أخواله بنو مخزوم؛ وقالوا: افد ابنك؛ ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ولأن العرب تجعل العم أبًا؛ قال الله تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وقال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] وهما أبوه وخالته.
وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف والفرزدق في نفسه مقال.
السابعة عشرة قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ} لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال: منهم محسن ومنهم مسيء، وأن المسيء لا تنفعه بنوة النبوّة؛ فاليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلابد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر، وفي التنزيل: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] الآية؛ أي أبناء رسل اللّه فرأوا لأنفسهم فضلًا.
وقد تقدم. اهـ.

.قال ابن كثير:

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)}.
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم عليه السلام: إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} يعني: أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أولُ ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم، عليه السلام، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكْره، فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا إسحاق، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحَرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال: وحيد إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تُلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}. ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، أي: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام.
وقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وغيرهم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وَحْي، ثم تلا هذه الآية: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل بن يونس، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي» ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امض لما أمرك الله من ذبحي، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55].
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت.
وقيل: {أَسْلَمَا} يعني: استسلما وانقادا؛ إبراهيم امتثل أمْرَ الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه. قاله مجاهد، وعكرمة والسدي، وقتادة، وابن إسحاق، وغيرهم.
ومعنى {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه، قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبه على وجهه.
قال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغَنَويّ، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس أنه قال: لما أمر إبراهيم بالمناسك عَرَض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، وثَمّ تَلَّه للجبين، وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلعه، فنُوديَ من خلفه: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين. قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش.
وذكر تمام الحديث في المناسك بطوله. ثم رواه أحمد بطوله عن يونس، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكر نحوه إلا أنه قال: إسحاق. فعن ابن عباس في تسمية الذبيح روايتان، والأظهر عنه إسماعيل، لما سيأتي بيانه.
وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن جعفر بن إياس، عن ابن عباس في قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: خرج عليه كبش من الجنة. قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلَتَه عندها، فجاء الجمرةَ الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها. ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفسُ ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حَشَّ، يعني: يبس.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، أخبرنا القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل كعب يحدث عن الكُتُب، فقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خَبَأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة». فقال له كعب: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فداك أبي وأمي- أو: فداه أبي وأمي- أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه السلام؟ إنه لما أُريَ ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا. فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان فدخل على سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: غدا به لبعض حاجته. قال: لم يغد لحاجة، وإنما ذهب به ليذبحه. قالت: وَلِم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فقد أحسن أن يطيع ربه. فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟ قال: لبعض حاجته. قال: إنه لا يذهب بك لحاجة، ولكنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم يذبحني؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن. قال: فيئس منه فلحق بإبراهيم، فقال: أين غدوت بابنك؟ قال لحاجة. قال: فإنك لم تغد به لحاجة، وإنما غدوت به لتذبحه قال: وَلم أذْبَحه؟ قال: تزعم أن ربك أمرك بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. قال: فتركه ويئس أن يطاع.
وقد رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جَاريَةَ الثقفي أخبره، أن كعبا قال لأبي هريرة. فذكره بطوله، وقال في آخره: وأوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها. قال إسحاق: اللهم، إني أدعو أن تستجيب لي: أيُّما عَبْد لقيك من الأولين والآخرين، لا يشرك بك شيئًا، فأدخله الجنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي، وبين أن أختبئ شفاعتي، فاختبأت شفاعتي، ورجوت أن تكفر الجَمْ لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي، إن الله لما فرج عن إسحاق كرْبَ الذبح قيل له: يا إسحاق، سل تعطه. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة». هذا حديث غريب منكر.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مُدْرَجَة، وهي قوله: «إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق» إلى آخره، والله أعلم. فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل، وإنما حرفوه بإسحاق؛ حَسَدًا منهم كما تقدم، وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة، حيث كان إسماعيل لا إسحاق عليهما السلام، فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.
وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي: قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح.