فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)}.
وهذا {يونس} بن متى صلى الله عليه وسلم، وهو من بني إسرائيل، وروي أنه نبىء ابن ثمانية وعشرين سنة فتفسخ تحت أعباء النبوءة كما يتفسخ الربع تحت الحمل، وقد تقدم شرح قصته ولكن نذكر منها ما تفهم به هذه الألفاظ، فروي أن الله بعثه إلى قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب، وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم، ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم، وكان في هذا تجربة ليونس فلحقت يونس غضبة، ويروى أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة، فخافهم يونس وغضب مع ذلك ف {أبق إلى الفلك} أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق، من حيث هو عبد الله فر عن غير إذن مولاه، فهذه حقيقة الإباق، و{الفلك} في هذا الموضع واحد، و{المشحون} الموقر، وهنا قصص محذوف إيجازًا واختصارًا، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه لما حصل في السفينة وأبعدت في البحر ركدت ولم تجر، والسفن تجري يمينًا وشمالًا فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنفترع، فأخذوا لكل أحد سهمًا وقالوا اللهم ليطف سهم المذنب، ولتغرق سهام الغير فطفا سهم يونس، ففعلوا نحو هذا ثلاث مرات في كل مرة تقع القرعة عليه، فأزمعوا معه على أن يطرحوه في البحر فجاء إلى ركن من أركان السفينة ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فرجع إلى الركن الآخر فوجدها كذلك حتى استدار أركان السفينة ليقع منه بالمركب وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك عن دالله فترامى إليها فالتقمته، وروي أنما التقمته بعد أن وقع في الماء، وروي أن الله أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقًا وإنما جعلت بطنك له حرزًا وسجنًا فهذا معنى {فساهم} أي قارع وكذلك فسر ابن عباس والسدي، و{المدحض} الزاهق المغلوب في محاضة أو مساهمة أو مسابقة ومنه الحجة الداحضة، و{المليم} الذي أتى ما يلام عليه، ألام الرجل دخل في اللوم، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول الشاعر: الطويل:
وكم من مليم لم يصب بملامة ** ومتبع بالذنب ليس له ذنب

ومنه قول لبيد بن ربيعة: الكامل:
سفهًا عذْلتَ ولمت غير مليم ** وهداك قبل اليوم غير حكيم

ثم استنقذه الله من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار، وقالت فرقة بعد سبع ساعات، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام، وقال عطاء بن أبي رباح بعد سبعة أيام، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يومًا، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين يومًا، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله، وقالت فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع، واختلفت هذه الفرقة، فقال قتادة وابن عباس وأبو العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة، وقال هذا جماعة من العلماء، وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان عبدًا لله ذاكرًا فلما أصابته الشدة نفعه ذلك، قال الله عز وجل: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} وإن فرعون كان طاغيًا باغيًا فلما أدركه الغرق قال آمنت فلم ينفعه ذلك، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة.
وقال قتادة في الحكمة: إن العمل يرفع صاحبه إذ عثر فإذا صرع وجد متكئًا، وقال الحسن بن أبي الحسن: كانت سبحته صلاة في بطن الحوت، وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول يا رب لأبنين لك مسجدًا حيث لم يبنه أحد قبلي ويصلي، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يونس حين نادى في الظلمات، ارتفع نداؤه إلى العرش فقالت الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف من موضع غربة، فقال الله هو عبدي يونس فأجاب الله دعوته.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الحديث وقال ابن جبير الإشارة بقوله: {من المسبحين} إلى قوله: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].
قال القاضي أبو محمد: وكثر الناس في هذا القصص بما اختصرناه لعدم الصحة، وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل فنبذه الله في عراء من الأرض، و{العراء} الفيفاء التي لا شجر فيها ولا معلم ومنه قول الشاعر:
رفعت رجلًا لا أخاف عثارها ** ونبذت بالبلد العراء ثيابي

وقال السدي وابن عباس في تفسير قوله: {وهو سقيم} إنه كان كالطفل المنفوش بضعة لحم، وقال بعضهم كان كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية كانت تغاديه وتراوحه، وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة، ويجد منها ألوان الطعام، وأنواع شهواته واختلف الناس في اليقطينة فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة وهي لفظة مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل، والبطيخ ونحوه مما يموت من عامه، وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون اليقطين القرع خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله: {شجرة} تجوزًا وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقًا للعادة، لأن الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود، وحكى بعض الناس أنها كانت قرعة وهي تجمع خصالًا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها، وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب، ومشهور اللغة أن اليقطين القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس: الطويل:
فأنبت يقطينًا عليه برحمة ** من الله لولا الله ألفي ضاحيا

فنبت يونس عليه السلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس صلى الله عليه وسلم، وروي أنه كان يومًا نائمًا فأيبس الله تلك اليقطينة، وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له، فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتيب عليهم.
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)}.
قال الجمهور إن هذه الرسالة {إلى مائة ألف} في رسالته الأولى التي أبق بعدها، ذكرها الله في آخر القصص تنبيهًا على رسالته، ويدل على ذلك قوله: {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس حتى أبق، وقال قتادة وابن عباس أيضًا هذه الرسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل، وقرأ جعفر بن محمد، {ويزيدون} بالواو، وقرأ الجمهور {أو يزيدون} فقال ابن عباس أو بمعنى بل، وكانوا مائة ألف وثلاثين ألفًا، وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «كانوا مائة وعشرين ألفًا»، وقال ابن جبير: كانوا مائة وسبعين ألفًا، وروي عن ابن عباس أنه قرأ {إلى مائة ألف بل يزيدون} وقالت فرقة أو هنا بمعنى الواو، وقالت فرقة هي للإبهام على المخاطب، كما تقول ما عليك أنت أنا أعطي فلانًا دينارًا أو ألف دينار، ونحو هذا قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128].
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى قليل التمكن في قوله: {أو يزيدون} وقال المبرد وكثير من البصريين: المعنى على نظر البشر وحزرهم، أي من رآهم قال: هم مائة ألف أو يزيدون، وروي في قوله تعالى: {فآمنوا فمتعناهم} فمتعهم {إلى حين} أنهم خرجوا بالأطفال أولاد البهائم وفرقوا بينها وبين الأمهات وناحوا وضجوا وأخلصوا فرفع الله عنهم، والتمتيع هنا هو بالحياة و الحين آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي، وقرأ ابن أبي عبلة {حتى حين} وفي قوله تعالى: {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} مثال القريش أي أن آمنوا كما جرى لهؤلاء، ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله، {فاستفتهم} فإنما يعود ضميرهم على ما في المعنى من ذكرهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} فيه ثمان مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} يونس هو ذو النون، وهو ابن متّى، وهو ابن العجوز التي نزل عليها إلياس، فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر ويونس صبيّ يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه، ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها.
ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت فلحق بالجبال، ومات ابن المرأة يونس، فخرجت في إثر إلياس تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو اللّه لها لعلّه يُحي لها ولدها؛ فجاء إلياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يومًا من موته، فتوضأ وصلّى ودعا اللّه فأحيا اللّه يونس ابن متى بدعوة إلياس عليه السلام.
وأرسل اللّه يونس إلى أهل نِينَوَى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ثم تابوا، حسبما تقدّم بيانه في سورة يونس ومضى في الأنبياء قصة يونس في خروجه مغاضبًا.
واختلف في رسالته هل كانت قبل التقام الحوت إياه أو بعده.
قال الطبري عن شهر بن حَوْشَب: إن جبريل عليه السلام أتى يونس فقال: انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم.
قال: ألتمس دابة.
قال: الأمر أعجل من ذلك.
قال: ألتمس حذاء.
قال: الأمر أعجل من ذلك.
قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب السفينة احتبست السفينة لا تتقدّم ولا تتأخر.
قال: فتساهموا، قال: فُسهِم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه؛ فنودي الحوت: أيا حوت! إنا لم نجعل لك يونس رزقًا؛ إنما جعلناك له حرزًا ومسجدًا.
قال: فالتقمه الحوت من ذلك المكان حتى مَرَّ به إلى الأُبلّة، ثم انطلق به حتى مرّ به على دجلة، ثم انطلق حتى ألقاه في نِينوى.
حدّثنا الحرث قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو هلال قال حدثنا شهر بن حَوْشَب عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت؛ واستدل هؤلاء بأن الرسول لا يخرج مغاضبًا لربه، فكان ما جرى منه قبل النبوّة.
وقال آخرون: كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره اللّه بدعائهم إليه، وتبليغه إياهم رسالة ربه، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس اللّه في وقت وقَّته لهم ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة اللّه، فلما أظل القومَ العذابُ وغشيهم كما قال اللّه تعالى في تنزيله تابوا إلى اللّه، فرفع اللّه العذاب عنهم، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه فغضب من ذلك وقال: وعدتهم وعدا فكذب وعدى.
فذهب مغاضبًا ربه وكره الرجوع إليهم، وقد جرّبوا عليه الكذب؛ رواه سعيد بن جُبير عن ابن عباس.
وقد مضى هذا في الأنبياء وهو الصحيح على ما يأتي عند قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات 147].
ولم ينصرف يونس؛ لأنه اسم أعجمي ولو كان عربيًا لانصرف وإن كانت في أوّله الياء؛ لأنه ليس في الأفعال يُفْعُل كما أنك إذا سمَّيت بيُعْفُر صرفته؛ وإن سمّيت بِيَعْفُر لم تصرفه.
الثانية قوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ} قال المبرد: أصل أبق تباعد؛ ومنه غلام آبق.
وقال غيره: إنما قيل ليونس أبق؛ لأنه خرج بغير أمر اللّه عز وجل مستترًا من الناس.
{إِلَى الفلك المشحون} أي المملوءة.
{والفلك} يذكر ويؤنث ويكون واحدًا وجمعا وقد تقدم.
قال الترمذي الحكيم: سماه آبقًا لأنه أبق عن العبودية، وإنما العبودية ترك الهوى وبذل النفس عند أمور اللّه؛ فلما لم يبذل النفس عندما اشتدّت عليه العَزمة من المَلَك حسبما تقدّم بيانه في الأنبياء وآثر هواه لزمه اسم الآبق، وكانت عزمة الملك في أمر اللّه لا في نفسه، وبحظّ حقّ اللّه لا بحظ نفسه؛ فتحرى يونس فلم يصب الصواب الذي عند اللّه فسماه آبقا ومُلِيما.