فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى: {فَئَامِنُواْ} فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعدما فارقهم.
وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له.
وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه فالعطف على ما عنده.
وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى: {فَئَامِنُواْ} في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون الايمان المقرون بحرف التعقيب إيمانًا مخصوصًا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الايمان وجددوه لأن الأول كان إيمان باس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيمًا فيهم وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيًا.
وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد.
وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنمًا فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس قال: فإذا رجعت إليهم فاقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس: مرهما فقال لهما يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا: نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له إخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال: إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس قالتا: نعم فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض فاتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فاجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان منى وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} [الصافات 139] وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا تفصيل قصته عندهم؛ و أو على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل: بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد.
وكثير من البصريين: للشك نظرًا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال: المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر؛ ومن هاهنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات.
وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة {أَرْسَلْنَا} بتقديرهم يزيدون على {مِاْئَةِ} بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف، والزيادة على ما روى عن ابن عباس ثلاثون ألفًا، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفًا، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفًا، وعن نوف.
وابن جبير سبعون ألفًا، وأخرى الترمذي.
وابن جرير.
وابن المنذر.
وابن أبي حاتم.
وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: يزيدون عشرين ألفًا، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه.
{فمتعناهم} بالحياة {إلى حِينٍ} إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة.
والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدًا منهم وهو كذب مفتري، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الاخرين سلام} [الصافات 78، 79] الخ تفرقة بين شأن لوط.
ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر وأولى العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربًا منه والله تعالى أعلم.
والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدًا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائمًا؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد البر إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفًا عظيمًا.
وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتًا عظيمًا فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعًا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحًا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعامًا ولا شرابًا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحهمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدًا؟ فقال: نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطينًا فصعد على رأسه ليكون ظلًا له من كربه فرح باليقطين فرحًا عظيمًا وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب: يا يونس أحزنت جدًا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدًا فقال سبحانه: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالف للحق ما فيه؛ ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)}.
يونس هو ابن متّى، واسمه بالعبرانية يُونان بن آمتاي، وهو من أهل فلسطين، وهو من أنبياء بني إسرائيل أرسله الله إلى أهل نينوَى وكانت نينَوى مدينة عظيمة من بلاد الأشوريين وكان بها أسرى بني إسرائيل الذين بأيدي الأشوريين وكانوا زهاء مائة ألف بقُوا بعد دانيال.
وكان يونس في أول القرن الثامن قبل المسيح، وقد تقدم ذكره وذكر قومه في الأنعام وسورة يونس.
و{إذ} ظرف متعلق ب {المُرسلينَ} وإنما وُقتت رسالته بالزمن الذي أبَق فيه إلى الفُلك لأن فَعلته تلك كانت عندما أمره الله بالذهاب إلى نينَوى لإِبلاغ بني إسرائيل أن الله غضب عليهم لأنهم انحرفوا عن شريعتهم.
فحينما أوحى الله إليه بذلك عَظم عليه هذا الأمر فخرج من بلده وقصد مرسى يافا ليذهب إلى مدينة ترشيش وهي طرطوسِية على شاطىء بلاد الشام فهال البحر حتى اضطر أهل السفينة إلى تخفيف عدد ركابها فاستهموا على من يطرحونه من سفينتهم في البحر فكان يونس ممن خرج سهم إلقائه في البحر فالْتَقَمه حوت عظيم وجرت قصته المذكورة في سورة الأنبياء، فلما كان هروبه من كلفة الرسالة مقارنًا لإِرساله وُقّت بكونه من المرسلين.
و{أبَقَ} مصْدره إِباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد مِن مالكه.
وفعله كضرب وسمع.
والمراد هنا: أن يونس هرب من البلد الذي أوحي إليه فيه قاصدًا بلدًا آخر تخلصًا من إبلاغ رسالة الله إلى أهل نِينْوَى ولعله خاف بأسَهم واتّهم صبرَ نفسه على أذاهم المتوَّقعَ لأنهم كانوا من بني إسرائيل في حماية الأشوريين.
ففِعل {أبَق} هنا استعارة تمثيلية، شبّهت حالة خروجه من البلد الذي كلّفه ربه فيه بالرسالة تباعدًا من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي كلّفه عملًا.
و{الفُلك المشحون} المملوء بالراكبين، وتقدم معناه في قصة نوح.
وساهم: قَارع.
وأصله مشتق من اسم السَّهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتُسمّى الأزلام.
وتفريع {فَسَاهَمَ} يؤذن بجمل محذوفة تقديرها: فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم.
وهذا نظير التفريع في قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63] والمذكور في كتاب يونان من كتب اليهود: أن بعضهم قال لبعض: هلمّ نُلْققِ قرعة لنعرف مَن هو سبب هذه البلية فألقَوا قرعة فوقعت على يونس.
وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن القرعة خرجت ثلاث مرات على يونس.
وسنُة الاقتراع في أسفار البحر كانت متَّبعة عند الأقدمين إذا ثقُلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع.
وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في شرح الطغرائية: أن بعض الأصحاب يدعي أن مركبًا فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر ليخفّ المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا: نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه.
فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال: ليس هذا حكمًا مرضيًا وإنما نَعدّ الجماعة فمن كان تاسعًا ألقيناه فارتضَوْا بذلك فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون وهذه صورة ذلك وصوَّر دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداءُ العَدّ وهو إلى جهة الشِمال قال: ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال: كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب فقلت له: الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو:
اللَّه يقضي بكل يسر ** ويرزق الضيف حين كانا

.اهـ.
وكانت القرعة طريقًا من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء.
وقد تقدم في سورة آل عمران (44) عند قوله: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييزَ صاحب الحق عند التنازع.
ولعلها من مخترعات الكهنة وسَدنة الأصنام.
فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال، ولكن الشرائع الحقَّ لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يُصار إليها إلا عند التساوي في الحقّ وفقداننِ المرجِّح، الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه، فهي من بقايا الأوهام.
وقد اقتصرت الشريعة الإِسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه.
مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسِمين إذ تشاحوا في أحدها، قال ابن رشد في المقدمات: والقرعة إنما جعلت تطييبًا لأنفس المتقاسمين وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس: {فساهم فكان من المدحضين}.
وعندي: أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعًا صحيحًا كان قبل الإِسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجرَوْا الاستهام على يونس، على أن ما أُجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام.
فلو صح أن ذلك كان شرعًا لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا.
قال ابن العربي: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصيًا أن يقتل ولا أن يرمَى به في النار والبحر.
وإنما تجري عليه الحدود والتعزيرُ على مقدار جنايته.
وظَنّ بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفًا، وهذا فاسد فلا تُخفَّف برَمْي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبِرون على قضاء الله.
وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم.
وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن:
الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه أن رجلًا أعتق في مَرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين وهما معادل الثلث وأرقّ أربعة.