فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا}.
أكثر أهل التفسير أن الجِنّة هاهنا الملائكة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالوا يعني كفار قريش الملائكة بنات اللّه، جل وتعالى.
فقال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه: فمن أمهاتهن.
قالوا: مخدّرات الجنّ.
وقال أهل الاشتقاق: قيل لهم جنّة لأنهم لا يُرَونَ.
وقال مجاهد: إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجِنّة.
وروي عن ابن عباس.
وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال: إنما قيل لهم جِنة لأنهم خُزان على الجِنان والملائكة كلهم جِنّة.
{نَسَبًا} مصاهرة.
قال قتادة والكلبي ومقاتل: قالت اليهود لعنهم اللّه إنّ اللّه صاهر الجنّ فكانت الملائكة من بينهم.
وقال مجاهد والسدي ومقاتل أيضًا: القائل ذلك كنانة وخزاعة؛ قالوا: إن اللّه خطب إلى سادات الجنّ فزوّجوه من سَرَوات بناتهم، فالملائكة بنات اللّه من سَرَوات بنات الجنّ.
وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة اللّه فهو النسب الذي جعلوه.
قلت: قول الحسن في هذا أحسن؛ دليله قوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] أي في العبادة.
وقال ابن عباس والضحاك والحسن أيضًا: هو قولهم إن اللّه تعالى وإبليس أخوان؛ تعالى اللّه عن قولهم علوًا كبيرًا.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة} أي الملائكة {إِنَّهُمْ} يعني قائل هذا القول {لَمُحْضَرُونَ} في النار؛ قاله قتادة.
وقال مجاهد: للحساب.
الثعلبي: الأول أولى؛ لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد اللّه به غير العذاب.
{سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزيهًا للّه عما يصفون.
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} فإنهم ناجون من النار.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} {ما} بمعنى الذي.
وقيل: بمعنى المصدر، أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام.
وقيل: أي فإنكم مع ما تعبدون من دون اللّه؛ يقال: جاء فلان وفلان.
وجاء فلان مع فلان.
{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي على اللّه {بِفَاتِنِينَ} بمضلّين.
النحاس.
أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى: ما أنتم بمضّلين أحدًا إلا من قدّر اللّه عز وجل عليه أن يضِل.
وقال الشاعر:
فردّ بنعمته كيدَهُ ** عليهِ وكان لنا فاتِنا

أي مضلًا.
الثانية في هذه الآية ردٌّ على القَدَرية.
قال عمرو بن ذرّ: قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذُكِر عنده القَدَر، فقال عمر: لو أراد اللّه ألاّ يُعْصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلمًا في كتاب اللّه جل وعزّ، عرفه من عَرَفَه، وجهله من جهله؛ ثم قرأ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات 161] إلا من كتب اللّه عز وجل عليه أن يصلَى الجحيم.
وقال: فصَلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يَصِلون إلى إضلال أحد إلا من كتب اللّه عليه أنه لا يهتدي، ولو علم اللّه جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم؛ وعلى هذا قوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي لست تَصِل منهم إلى شيء إلا إلى ما في علمي.
وقال لَبِيد بن ربيعة في تثبيت القدَرِ فأحسن:
إنّ تَقْوى ربِّنا خير نَفَلْ ** وبِإذنِ اللّه رَيْثي وعَجَلْ

أحَمدُ اللّه فلا نِدَّ لهُ ** بِيديهِ الخيرُ ما شاء فَعَلْ

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخير اهتدى ** ناعِم البَالِ ومَنْ شاء أَضَلْ

قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وأهل نجد يقولون أفتنته.
الثالثة روي عن الحسن أنه قرأ: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صالُ الْجَحِيمِ} بضم اللام.
النحاس: وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن؛ لأنه لا يجوز هذا قاضُ المدينةِ.
ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت علي بن سليمان يقوله؛ قال: هو محمول على المعنى؛ لأن معنى.
{مَنْ} جماعة؛ فالتقدير صالون، فحذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
وقيل: أصله فاعل إلا أنه قُلب من صال إلى صايل وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة فهو مثل {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}.
ووجه ثالث أن تحذف لام {صال} تخفيفًا وتجري الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالة.
وأصلها بالية من بالى كعافية من عافى؛ ونظيره قراءة من قرأ، {وَجنى الْجَنَّتَيْنِ دانٌ} {وَلَهُ الْجَوَارُ الْمُنشَئاتُ} أجرى الإعراب على العين.
والأصل في قراءة الجماعة صالُي بالياء فحذفها الكاتب من الخط لسقوطها في اللفظ.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}.
هذا من قول الملائكة تعظيمًا للّه عز وجل، وإنكارًا منهم عبادة من عبدهم.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} قال مقاتل: «هذه الثلاث الآيات نزلت ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند سِدرة المنتهى، فتأخر جبريل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهنا تفارقني. فقال: ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل اللّه تعالى حكاية عن قول الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ» الآيات.
والتقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام معلوم.
فحذف الموصول.
وتقديره عند البصريين: وما منا ملَكَ إلا له مقام معلوم؛ أي مكان معلوم في العبادة؛ قاله ابن مسعود وابن جُبير.
وقال ابن عباس: ما في السموات موضع شبرٍ إلا وعليه ملَكَ يصلّي ويُسّبح.
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملَك ساجد أو قائم» وعن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطَّت السماءُ وحُقَّ لها أن تَئِط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملَك واضع جبهته ساجدًا للّه واللّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا وما تلذّذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى اللّه لوددت أني كنت شجرة تُعَضْد» خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه حديث حسن غريب.
ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذرّ قال: لوددت أني كنت شجرة تُعْضَد.
ويروى عن أبي ذرّ موقوفًا.
وقال قتادة: كان يصلّي الرجال والنساء جميعًا حتى نزلت هذه الآية: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}.
قال: فتقدّم الرجال وتأخر النساء.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} قال الكلبي: صفوفهم كصفوف أهل الدنيا في الأرض.
وفي صحيح مسلم «عن جابر بن سَمُرة قال: خرج علينا رسول صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد؛ فقال: ألا تَصُفّون كما تَصُفّ الملائكة عند ربها. فقلنا يا رسول اللّه كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يُتمون الصفوف الأوَلَ ويتراصُّون في الصفّ» وكان عمر يقول إذا قام للصلاة: أقيموا صفوفكم واستووا إنما يريد اللّه بكم هَدْي الملائكة عند ربها ويقرأ: {وَإنَّا لَنَحْنُ الصَّافُون} تأخر يا فلان تقدّم يا فلان؛ ثم يتقدّم فيكبر.
وقد مضى في سورة الحجر بيانه.
وقال أبو مالك: كان الناس يصلّون متبدّدين فأنزل اللّه تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا.
وقال الشعبي: جاء جبريل أو ملَك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه؛ إن الملائكة لتصلي وتسبح ما في السماء ملَك فارغ.
وقيل: أي لنحن الصافون أجنحتنا في الهواء وقوفًا ننتظر ما نؤمر به.
وقيل: أي نحن الصافون حول العرش.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي المصلون؛ قاله قتادة.
وقيل: أي المنزهون اللّه عما أضافه إليه المشركون.
والمراد أنهم يخبرون أنهم يعبدون اللّه بالتسبيح والصلاة وليسوا معبودين ولا بنات اللّه.
وقيل: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للمشركين؛ أي لكل واحد منا ومنكم في الآخرة مقام معلوم وهو مقام الحساب.
وقيل: أي منَّا من له مقام الخوف، ومنا من له مقام الرجاء، ومنا من له مقام الإخلاص، ومنَّا من له مقام الشكر.
إلى غيرها من المقامات.
قلت: والأظهر أن ذلك راجع إلى قول الملائكة {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} واللّه أعلم.
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}.
عاد إلى الإخبار عن قول المشركين، أي كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إذا عيروا بالجهل قالوا: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الأولين} أي لو بُعِث إلينا نبيّ ببيان الشرائع لاتبعناه، ولمّا خففت {إن} دخلت على الفعل ولزمتها اللام بين النفي والإيجاب.
والكوفيون يقولون: {إِنْ} بمعنى ما واللام بمعنى إلا.
وقيل: معنى {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا} أي كتابًا من كتب الأنبياء {لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأوّلين لأخلصنا العبادة للّه.
{فَكَفَرُواْ بِهِ} أي بالذكر.
والفراء يقدره على حذف؛ أي فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر فكفروا به.
وهذا تعجيب منهم، أي فقد جاءهم نبيّ وأنزل عليهم كتاب فيه بيان ما يحتاجون إليه فكفروا وما وفوا بما قالوا.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قال الزجاج: يعلمون مغبَّة كفرهم. اهـ.