فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير {عَلَيْهِ} يجوز أن يكون عائدًا إلى اسم الجلالة في قوله: {ليقولون ولَدَ الله} [الصافات 151- 152] أو في قوله: {إلاَّ عباد الله} [الصافات 160]، ويجوز أن يعود إلى {ما تعبدون} بمراعاة إفراد اسم الموصول وهو {ما} وحذف مفعول فاتنين لقصد العموم.
والتقدير: بفاتنين أحدًا، ومعياره صحة الاستثناء في قوله: {إلاَّ من هُو صَاللِ الجحيم} فالاستثناء مفرغ والمستثنى مفعول {بفاتِنِينَ}.
وحرف على يتعلق ب{فاتنين} إمّا لتضمين {فاتنين} معنى مفسدين إن كان الضمير المجرور بها عائدًا إلى اسم الجلالة كما يقال: فسد العبدُ على سيّده وخَلّق فلان المرأةَ على زوجها، وتكون على للاستعلاء المجازي لأن تضمين مفسدين فيه معنى الغلبة.
وإما لتضمينه معنى حاملين ومسؤولين ويكون على بمعنى لام التعليل كقوله: {ولتكبروا اللَّه على ما هداكم} [البقرة: 185] ويكون تقدير مضاف بين على ومجرورها تقديره: على عبادة ما تعبدون، والمعنى: أنكم والشياطين لا يتبعكم أحد في دينكم إلا من عرض نفسه ليكون صاليَ الجحيم، وهذا في معنى قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين} [الحجر: 42- 43].
ورسم في المصحف «صَاللِ الجحيمِ» بدون ياء بعد اللام اعتبارًا بحالة الوصل فإن الياء لا ينطق بها فرسمه كاتبُ المصحف بمثل حالة النطق، ولذلك ينبغي أن لا يوقف على {صَالِ}.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)}.
فيجوز أن يكون عطفًا على قوله: {إلاَّ عبادَ الله المخلصين} [الصافات 160] على أول الوجهين في المعنيّ بعباد الله المخلَصين فيكون عطفًا على معنى الاستثناء المنقطع لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى، وعُطف عليه أنهم يتبرأون من ذلك فالواو عاطفة قولًا محذوفًا يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل.
والتقدير: ويقولون ما منّا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصّافون وإنّا لنحن المسبّحون، وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله: {إلاَّ له مقام معلوم} وقوله: {الصَّافون المُسبّحُونَ} الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن كما تقدم في أول السورة وصفُهم بالصّافّات، ووصفُهم بالتسبيح كثير كقوله: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم} [الشورى: 5]، وذكر مقاماتهم في قوله تعالى: {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} [التكوير: 20- 21] وقوله: {ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} [النجم: 13- 14].
وفي أحاديث كثيرة مثلًا حديث الإِسراء أن جبريل وجد في كل سماء ملكًا يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ويسأله المَلك: من أنت؟ ومن معك؟ وهل أُرسل إليه؟ فإذا قال: نعم، فَتح له.
وعن مقاتل أن قوله: {وما منَّا إلا له مقامٌ معلوم} إلى {المُسبحونَ} نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى فتأخَّر جبريلُ فقال له النبي: أهنا تفارقني فقال: لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة {وما مِنَّا إلا له مقامٌ معلومٌ} الآيتين.
ويجوز أن يكون هذا مما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين عطفًا على التفريع الذي في قوله: {فإنَّكم وما تعبدون} [الصافات 161] إلى آخره ويتصل الكلام بقوله: {فاستفتهم ألربك البنات} [الصافات 149] إلى هنا.
والمعنى: ما أنتم بفاتنيننا فتنةَ جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم: الملائكة بنات الله والجنُ أصهار الله فما منا إلاّ له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقيّة لله والعبودية له.
والمنفي ب {ما} محذوف دل عليه وصفه بقوله: {مِنَّا}.
والتقدير: وما أحد منا كما في قول سحيم بن وثيل:
أنا ابن جلا وطَلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني

التقدير: ابن رجل جلا.
والخبر هو قوله: {إلاَّ له مقامٌ معلومٌ}.
والتقدير: ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم.
والمقام: أصله مكان القيام.
ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حُكيَ في قول نوح: {إن كان كبر عليكم مقامي} [يونس: 71] أي عملي.
والمعلوم: المعيّن المضبوط، وأطلق عليه وصف {مَعْلُومٌ} لأن الشيء المعيّن المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمّلَه عَلِمَه.
والمعنى: ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه فيه الوساوس فلا تطمعوا أن تزِلونا عن عبادة ربنا.
فالمقام هو صفة العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة عقب قوله: {فإنَّكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتِنينَ} [الصافات 161- 162]، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوّة لله تعالى ولا نُشبّه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لِجلاله كقوله: {وجعلوا للَّه شركاء الجن وخلقهم} [الأنعام: 100].
فقوله: {وإنَّا لنحنُ الصافُّونَ وإنا لنحن المُسبحون} أي وإنا معشر المسلمين، الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفًا بالصلاة.
ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبهًا بنظام الملائكة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: «جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة»، والمراد بالمسبحين المنزّهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدًا أو يكون خلق صهرًا له أو صاحبة خلافًا لشرككم إذ عبادتكم مُكاء وتصدية وخلافًا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارًا.
وحذف متعلق {الصَّافون} {المسبحون} لدلالة قوله: {ما أنتم عليه بفاتنينَ} [الصافات 162] عليه، أي الصافّون لعبادته المسبّحون له، فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشؤون الله تعالى.
وتعريف جزأي الجملة، وضميرُ الفصل من قوله: {لنَحْنُ} يفيدان قصرًا مؤكدًا فهو قصر قلب، أي دون ما وصفتموه به من البنوّة لله.
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)}.
انتقال من ذكر كفر المشركين بتعدد الإله وبإنكار البعث وما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من السحر والجنون ثم بما نسبوا لله مما لا يليق بإلهيته وما تخلل ذلك من المواعظ والوعيد لهم والوعد للمؤمنين والعبرة بمصارع المكذبين السابقين وما لقيه رسل الله من أقوامهم.
فانتقال الكلام إلى ذكر ما كفر به المشركون من تكذيب القرآن الذي أنزله الله هدى لهم، فالمقصود من هذا هو قولُه: {فكَفَروا به} أي الذكرِ، وإنما قدم له في نظم الكلام ما فيه تسجيل عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين يودّون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين ويرجُون لو كان ذلك أن يكونوا عبادًا لله مخلصين له فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به وذلك أفظع الكفر لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره إذ كانوا يتمنّونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثلُه فلم يكن كفرهم عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر.
وتأكيد الخبر ب {إِنْ} المخففة من الثقيلة وبلام الابتداء الفارقة بين المخففة والنافية للتسجيل عليهم بتحقيق وقوع ذلك منهم ليُسدّ عليهم باب الإِنكار.
وإقحام فعل {كانُوا} للدلالة على أن خبر كان ثابت لهم في الماضي.
والتعبيرُ بالمضارع في {يقولون} لإِفادة أن ذلك تكرر منهم.
و{لو} شرطية وسدّت {أنّ} وصلتها مسدّ فعل الشرط وهو كثير في الكلام.
والذكر: الكتاب المقروء، سمي ذِكرًا لأنه يذكر الناس بما يجب عليهم مُسمّى بالمصدر.
وتقدم عند قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} في سورة [الحجر: 6].
و{مِن الأوَّلين} صفة ل {ذِكرًا} والمراد ب {الأوَّلين} الرسل السابقون، و{من} ابتدائية، أي ذكرًا جائيًا من الرسل الأولين، أي مثل موسى وعيسى.
ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين، فذكر في جواب {لو} ما هو أخص من الإِيمان ليفيد معنى الإِيمان بدلالة الفحوى.
وفي جملة {لكُنَّا عِبَاد الله المخلصين} صيغة قصر من أجل كون المسند إليه معرفة بالإِضمار والمسند معرفة بالإِضافة، أي لكنا عباد الله دون غيرنا، ولما وصف المسند ب {المخلصين} وهو معرَّف بلام الجنس حصل قصر عباد الله الذين لهم صفة الإِخلاص في المسند إليه، وهذا قصر ادعائي للمبالغة في ثبوت صفة الإِخلاص لهم حتى كانوا شبيهين بالمنفردين بالإِخلاص لعدم الاعتداد بإخلاص غيرهم في جانب إخلاصهم.
وهو يؤول إلى معنى تفضيل أنفسهم في الإِخلاص لله حينئذٍ، كما صرح به في قوله تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157].
والفاء في قوله: {فكفروا به} للتعقيب على فعل {ليقُولُونَ} أي استمرّ قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به، أو للفصيحة، والتقدير: فكان عندهم ذكر فكفروا به، فالضمير عائد إلى الذكر وهو القرآن قال تعالى: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز} [فصلت: 41].
وهذا معنى قوله تعالى: {وأقسموا باللَّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونُنّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورًا} [فاطر: 42].
وبهذا كان للوعيد بقوله: {فَسَوْفَ يعلَمُون} موقعُه المصادفُ المِجَزَّ من الكلام، وهوْلُه بما ضمنه من الإِبهام.
و{سوف} أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)}.
لمَّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بناتُ الله بَيَّنَ اللَّهُ قُبْحَ قَوْلِهم، فقال: سَلْهُم من أين قالوا؟ وبأي حُجَّةً حكموا بما زعموا؟ وأي شُبْهَةٍ داخَلَتْهم. ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات، ويُؤْثِرون البنين عليهن.. ومع كُفرهم وقبيح قولِهم وصفوا القديمَ سبحانه بما استنكفوا منه لأَنْفُسهم.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)} أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلاَّ من أَغْوَيْتُه بحُكْمِي، فبه ضَلُّوا لا بإضلالكم.
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)}.
الملائكة لهم مقام معلوم لا يَتَخطَّوْنَ مقامَهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياءُ لهم مقام مستورٌ بينهم وبين الله لا يُطْلِعُ عليه أحدًا، والأنبياءُ لهم مقام مشهورٌ مؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة فأَمْرُهُم على الشّهْرِ، وأَمْرُ الأولياءِ على السَّتْرِ. اهـ.

.تفسير الآيات (171- 182):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير كما أرشد إليه سياق التهديد: فلقد سبقت كلمتنا على من خالف رسلنا بالخذلان المهين، عطف عليه قوله: {ولقد سبقت} أي في الأزل {كلمتنا} أي على ما لنا من العظمة {لعبادنا} أي الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {المرسلين} الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة.
ولما آذنت اللام بعلوهم، أوضح ذلك ببيان ما سماه كلمة لانتظامه في معنى واحد بقوله: {إنهم} وزاد في تأكيده في نظير ما عند الكفرة على ما تدل أعمالهم أنه في غاية البعد فقال: {لهم} أي خاصة {المنصورون} أي الثابت نصرهم في الجدال والجلاد وإن وقع للكفار عليهم في الثاني ظهور ما.
ولما خص بذلك المرسلين، عم فقال: {وإن جندنا} أي من المرسلين وأتباعهم، ولما كان مدلول الجند في اللغة العسكر والأعوان والمدينة وصنفًا من الخلق على حدة، قال جامعًا على المعنى دون اللفظ نصًا على المراد: {لهم} أي لا غيرهم {الغالبون} أي وإن رئي أنهم مغلوبون لأن العاقبة لهم إن لم يكن في هذه الدار فهو في دار القرار، وقد جمع لهذا النبي الكريم فيهما، وسمى هذا كله كلمة لانتظامه معنى واحدًا، ولا يضر انهزام في بعض المواطن من بعضهم ولا وهن قد يقع، وكفى دليلًا على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الثلاثة بعده رضى الله عنه م.
ولما ثبت لا محالة بهذا أنه صلى الله عليه وسلم هو المنصور لأنه من المرسلين ومن جند الله، بل هو أعلاهم، سبب عن ذلك قوله: {فتولّ} أي فكلف نفسك الإعراض {عنهم} أي عن ردهم عن الضلال قسرًا {حتى حين} أي مبهم، وهو الوقت الذي عيناه لنصرك في الأزل {وأبصرهم} أي ببصرك وبصيرتك عند الحين الذي ضربناه لك وقبله: كيف تؤديهم أحوالهم وتقلباتهم كلما تقلبوا إلى سفول.
ولما كانوا قبل الإسلام عميًا صمًّا لأنهم لا يصدقون وعدًا ولا وعيدًا، ولا يفكرون في عاقبة، حذف المفعول من فعلهم فقال متوعدًا محققًا بالتوسيف لا مبعدًا: {فسوف يبصرون} أي يحصل لهم الإبصار الذي لا غلط فيه بالعين والقلب بعد ما هم فيه من العمى، وهذا الحين واضح في يوم بدر وما كان من أمثاله قبل الفتح، فإنهم كان لهم في تلك الأوقات نوع من القوة، فلذلك أثبتهم نوع إثبات في أبصرهم.
ولما كانت عادتهم الاستعجال بما يهددون به استهزاء، كلما ورد عليهم تهديد، سبب عن ذلك الإنكار عليهم على وجه تهديد آخر لهم فقال: {أفبعذابنا} أي على ما علم له من العظمة بإضافته إلينا {يستعجلون} أي يطلبون أن يعجل لهم فيأتيهم قبل أوانه الذي ضربناه له.
ولما علم من هذا أنه لا بشرى لهم يوم حلوله، ولا قرار عند نزوله، صرح بذلك في قوله: {فإذا} أي هددناهم وأنكرنا عليهم بسبب أنه إذا {نزل بساحتهم} أي غلب عليها لأن ذلك شأن النازل بالشيء من غير إذن صاحبه ولا يغلب عليها إلا وقد غلب على أهلها فبرك عليهم بروكًا لا يقدرون معه على البروز إلى تلك الساحة وهي الفناء الخالي عن الأبنية كأنه متحدث القوم وموضع راحتهم في أي وقت كان بروكه من ليل أو نهار، ولكن لما كانت عادتهم الإغارة صباحًا، قال على سبيل التمثيل مشيرًا بالفاء إلى أنه السبب لا غيره {فساء صباح المنذرين} أي الذين هم أهل للتخويف من هؤلاء وغيرهم وهذا التهديد لا يصلح لأن ينطبق على يوم الفتح ولقد صار من لم يتأهل لغير الإنذار فيه في غاية السوء، وهم الذين قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، ومنهم من تعلق بأستار الكعبة فلم يفده ذلك، ولكنهم كانوا قليلًا، والباقون إن كان ذلك الصباح على ما ساءهم منظره فلقد سرهم لعمر الله مخبره.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة لا يستأصل قومه بعذاب، قال دالًا على ذلك بتكرير الأمر تأكيدًا للتسلية، ووعد النصرة مع ما فيه من زيادة المعنى على الأول، عاطفًا على {تولّ} الأولى: {وتول} أي كلف نفسك الصبر عليهم في ذلك اليوم الذي ينزل بهم العذاب الثاني والإعراض {عنهم حتى حين} وكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإنه حل بساحتهم يوم الفتح صباحًا، فلم يقدروا على مدافعة.
ولما كابر بعضهم ودافع، لم يكن بأسرع من أن ولوا وطلبوا السلامة بالدخول فيما جعله صلى الله عليه وسلم علمًا على التأمين، وقال حماس بن قيس أخو بني بكر لما دخل بيته لامرأته: أغلقي عليّ الباب، فعيرته بالهزيمة بعن أن كانت تنهاه عن منابذة المسلمين فلا ينتهي ويقول لها: لا بد، أن أخدمك بعضهم:
إنك لو شهدت يوم الحندمه ** إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ** يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربًا فلا يسمع إلا غمغمه ** لهم نهيت خلقنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

ولما كان هذا منطبقًا على يوم الفتح، وكان ذلك اليوم قد أحل الكفار محلًا صاروا به بحيث لا اعتبار لهم قال: {وأبصر} مسقطًا ضميرهم، أي أبصر ما تريد من شؤونك التي يهمك النظر فيها، وأما هم فصاروا بحيث لا يبالي بهم ولا يفكر في أمرهم ولا يلتفت إليهم، فإنا أبدلنا من عزتهم ذلًا، ومن كثرتهم قلًا، وجردنا تلك الأراضي من قاذورات الشرك، وأحللنا بها طهارة التنزيه وأقداس التحميد، وكذا كان، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لهم وهو على درج الكعبة وهم تحته كالغنم المجموعة في اليوم المطير بعد أن قال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ما تظنون أني فاعل بكم يا معاشر قريش؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال له صفوان بن أمية: اجعلني بالخيار شهرين، قال: أنت بالخيار أربعة أشهر» ولم يكلف أحدًا منهم الإسلام حتى أسلموا بعد ذلك طوعًا من عند آخرهم.
ولما حاصر الطائف فعسرت عليه انصرف عنها، فما لبثوا أن أرسلوا إليه رسلهم وأسلموا فحسن إسلامهم ولم يرتد أحد منهم في الردة، وهذا من معنى {فسوف يبصرون}.
ولما تقرر له سبحانه من العظمة ما ذكر، فكان الأمر أمره والخلق خلقه، ثبت تنزهه عن كل نقص واتصافه بكل كمال، فلذلك كانت نتيجة ذلك الختم بمجامع التنزيه والتحميد فقال: {سبحان ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإقامة الدليل الظاهر المحرر على صدقك بكل ما يكون من أحوال أعدائك من كلام أو سكوت، وتأييدك بكل قوة وإلباسك كل هيبة {رب العزة} أي التي هو مختص بها بما أفهمته الإضافة وأفاد شاهد الوجود وحاكم العقل، وقد علم بما ذكر في هذه السورة أنها تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء، وفي إضافة الرب إليه وإلى العزة إشارة إلى اختصاصه صلى الله عليه وسلم وكل من وافقه في أمره عن جميع الخلق بالعزة وإن رئي في ظاهر الأمر غير ذلك {عما يصفون} مما يقتضي النقائص لما ثبت من ضلالهم وبعدهم عن الحق.
ولما قدم السلام على من شاء تخصيصه في هذه السورة من رسله عمهم فقال عاطفًا على {سبحان} {وسلام} أي تنزه له وسلامة وشرف وفخر وعلا {على المرسلين} أي الواصفين له بما هو له أهل، الذين اصطفاهم، الصافين صفًّا، الزاجرين زجرًا، التالين ذكرًا، من البشر والملائكة المذكورين في هذه السورة وغيرهم لأجل ما حكم لهم من سبحانه في الأزل من العز والنصر {والحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي دل عليها مجموع خلقه، وإلى ذلك أشار بقوله: {رب العالمين} فهو حينئذ الواحد المعتال، الذي تنزه عن الأكفاء والأمثال، والنظراء والأشكال، في كل شيء من الأقوال والأفعال، والشؤون والأحوال، ولقد ترافق آخرها- كما ترى- وأولها، وتعانق مفصلها وموصلها- والله الهادي إلى الصواب. اهـ.