فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة الصافات: الآيات 83- 87]:

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}.
{مِنْ شِيعَتِهِ} ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما. أو شايعه على التصلب في دين اللّه ومصابرة المكذبين. ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: من أهل دينه وعلى سنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان:
هود، وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. فإن قلت: بم تعلق الظرف؟
قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعنى: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم. أو بمحذوف وهو: اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من جميع آفات القلوب. وقيل: من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها.
فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص للّه قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلا لذلك أَإِفْكًا مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون اللّه إفكا، وإنما قدّم المفعول على الفعل للعناية، وقدّم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إفكا مفعولا، يعنى: أتريدون به إفكا.
ثم فسر الإفك بقوله {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} على أنها إفك في أنفسها. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى: أتريدون آلهة من دون اللّه آفكين {فَما ظَنُّكُمْ} بمن هو الحقيق بالعبادة، لأنّ من كان ربا للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام: والمعنى: أنه لا يقدّر في وهم ولا ظنّ ما يصدّ عن عبادته. أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء، حتى جعلتم الأصنام له أندادا. أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟

.[سورة الصافات: الآيات 88- 90]:

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}.
{فِي النُّجُومِ} في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال: حبيب أنظر إليه، ومحتاج أنظر له، وكتاب أنظر فيه. كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم {فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ} إنى مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل. فإن قلت: كيف جاز له أن يكذب؟ قلت: قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. والصحيح: أن الكذب حرام إلا إذا عرّض وورّى، والذي قاله إبراهيم عليه السلام: معراض من الكلام، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم.
ومنه المثل: كفى بالسلامة داء. وقول لبيد:
فدعوت ربى بالسّلامة جاهدا ** ليصحّنى فإذا السّلامة داء

وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابى: أصحيح من الموت في عنقه. وقيل: أراد: إنى سقيم النفس لكفركم.

.[سورة الصافات: الآيات 91- 93]:

{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}.
{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} فذهب إليها في خفية، من روغة الثعلب، إلى آلهتهم: إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة، كقوله تعالى: {أين شركائى} {أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها {فَراغَ عَلَيْهِمْ} فأقبل عليهم مستخفيا، كأنه قال: فضربهم ضَرْبًا لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم. أو فراغ عليهم يضربهم ضربا. أو فراغ عليهم ضربا بمعنى ضاربا. وقرئ: {صفقا} و{سفقا} ومعناهما: الضرب. ومعنى ضربا بِالْيَمِينِ ضربا شديدا قويا، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما. وقيل: بالقوّة والمتانة: وقيل: بسبب الحلف، وهو قوله {تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ}.

.[سورة الصافات: آية 94]:

{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)}.
{يَزِفُّونَ} يسرعون، من زفيف النعام. ويزفون: من أزفّ، إذا دخل في الزفيف. أو من أزفه، إذا حمله على الزفيف، أي: يزفّ بعضهم بعضا. ويزفون، على البناء للمفعول، أى: يحملون على الزفيف. ويزفون، من وزف يزف إذا أسرع. ويزفون: من زفاه إذا حداه، كأن بعضهم يزفوا بعضا لتسارعهم إليه، فإن قلت: بين هذا وبين قوله تعالى {قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ} كالتناقض حيث ذكر هاهنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر، حتى قيل لهم: سمعنا إبراهيم يذمهم، فلعله هو الكاسر، ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها، وفي الآخر: أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر. قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفرا منهم دون جمهورهم وكبرائهم، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك، وسألوا: من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة، ولكن على سبيل التورية والتعريض بقولهم {سمعنا فتى يذكرهم} لبعض الصوارف. والثاني: أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر. وقولهم: قالوا فأتوا به على أعين الناس.

.[سورة الصافات: الآيات 95- 96]:

{قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)}.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} يعنى خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام، كقوله {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي فطر الأصنام. فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد مخلوقا للّه معمولا لهم، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعا؟.
قلت: هذا كما يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخلخال، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها اللّه، وعاملو أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه. فإن قلت: فما أنكرت أن تكون ما مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: واللّه خلقكم وعملكم، كما تقول المجبرة؟ قلت: أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب: أن معنى الاية يأباه إباء جليا، وينبو عنه نبوّا ظاهرا، وذلك أن اللّه عز وجل قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعا خلق اللّه، فكيف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها، ولو قلت: واللّه خلقكم وخلق عملكم، ولم يكن محتجا عليهم ولا كان لكلامك طباق. وشيء آخر: وهو أن قوله ما تَعْمَلُونَ ترجمة عن قوله {ما تَنْحِتُونَ} وما في {ما تَنْحِتُونَ} موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلا متعسف متعصب لمذهبه، من غير نظر في علم البيان، ولا تبصر لنظم القرآن. فإن قلت: اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت، وأريد: وما تعملونه من أعمالكم. قلت: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين، كحالك وقد جعلتها مصدرية، وأيضا فإنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون، حيث تخالف بين المرادين بهما، فتريد بما تنحتون: الأعيان التي هي الأصنام، وبما تعملون: المعاني التي هي الأعمال، وفي ذلك فك النظم وتبتيره، كما إذا جعلتها مصدرية.

.[سورة الصافات: الآيات 97- 98]:

{قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}.
{الْجَحِيمِ} النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر، فهي جحيم.
والمعنى: أن اللّه تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعا، وأذلهم بين يديه: أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه اللّه وألهمه ما ألقمهم به الحجر، وقهرهم فمالوا إلى المكر، فأبطل اللّه مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه.

.[سورة الصافات: الآيات 99- 101]:

{وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}.
أراد بذهابه إلى ربه: مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام، كما قال: إنى مهاجر إلى ربى. {سَيَهْدِينِ} سيرشدنى إلى ما فيه صلاحي في دينى ويعصمني ويوفقني، كما قال موسى عليه السلام {كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} كأن اللّه وعده وقال له: سأهديك، فأجزى كلامه على سنن موعد ربه. أو بناء على عادة اللّه تعالى معه في هدايته وإرشاده.
أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى اللّه. ولو قصد الرجاء والطمع لقال، كما قال موسى عليه السلام {عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ} {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا} قال عزّ وجل {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى} وقال على بن أبى طالب لابن عباس رضى اللّه عنهم حين هنأه بولده علىّ أبى الأملاك: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. ولذلك وقعت التسمية بهبة اللّه، وبموهوب، ووهب، وموهب. وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما، وأى حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال: {ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين} ثم استسلم لذلك. وقيل: ما نعت اللّه الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده. ولقد نعت اللّه به إبراهيم في قوله {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} لأنّ الحادثة شهدت بحلمهما جميعا.

.[سورة الصافات: آية 102]:

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}.
فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه. فإن قلت: مَعَهُ بم يتعلق؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ، أو بالسعي، أو بمحذوف، فلا يصح تعلفه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حدّ السعى، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه، فبقى أن يكون بيانا، كأنه لما قال: فلما بلغ السعى أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعى قيل: مع من؟ فقال مع أبيه. والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة. والمراد: أنه على غضاضة سنه وتقلبه في حد الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم: أتى في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى في اليقظة، فلهذا قال {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فذكر تأويل الرؤيا، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة: رأيت في المنام أنى ناج من هذه المحنة، وقيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن اللّه هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من اللّه، فمن ثم سمى يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل: إنّ الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح اللّه. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له: أوف بنذرك فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ: {ماذا ترى} أي: ماذا تبصر من رأيك وتبديه. وما ذا ترى، على البناء للمفعول، أي: ماذا تريك نفسك من الرأى {افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} أي ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ: {ما تؤمر به} فإن قلت: لم شاوره في أمر هو حتم من اللّه؟ قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء اللّه، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر اللّه قبل نزوله: ولأنّ المغافصة بالذبح مما يستسمج، وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت: كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه، وكما وعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين، لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.

.[سورة الصافات: الآيات 103- 111]:

{فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}.