فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} ممن شايعه في الإِيمان وأصول الشريعة.
{لإبراهيم} ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبًا، وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هود وصالح عليهما الصلاة والسلام.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ} متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر.
{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له، وقيل حزين من السليم بمعنى اللديغ. ومعنى المجيء به ربه: إخلاصه له كأنه جاء به متحفًا إياه.
{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} بدل من الأولى أو ظرف ل {جَاء} أو {سَلِيمٍ}.
{أَئِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي تريدون آلهة دون الله إفكًا مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الافك، ويجوز أن يكون {إِفْكًا} مفعولًا به و{ءَالِهَةً} بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالًا بمعنى إفكين.
{فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين} بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه، والمعنى إنكار ما يوجب ظنًا فضلًا عن قطع يصد عن عبادته، أو يجوز الإِشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإِلزام وهو كالحجة على ما قبله.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً في النجوم} فرأى مواقعها واتصالاتها، أو في علمها أو في كتابها، ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوه أن يعبد معهم.
{فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ} أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجًا قل من يخلو منه أو بصدد الموت ومنه المثل: كفى بالسلامة داء، وقول لبيد:
فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلاَمَةِ جَاهِدا ** لِيُصحّنِي فَإِذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ

{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} هاربين مخافة العدوى.
{فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ} فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة.
{فَقَالَ} أي للأصنام استهزاء.
{أَلا تَأْكُلُونَ} يعني الطعام الذي كان عندهم.
{مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} بجوابي.
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمال عليهم مستخفيًا، والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه.
{ضَرْبًا باليمين} مصدر {لراغ عليهم} لأنه في معنى ضربهم، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل، وقيل {باليمين} بسبب الحلف وهو قوله: {تالله لأكِيدَنَّ أصنامكم} {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ} إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله: {مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا} الآية.
{يَزِفُّونَ} يسرعون من زفيف النعام. وقرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف. وقرئ {يَزِفُّونَ} أي يزف بعضهم بعضًا، و{يَزِفُّونَ} من وزف يزف إذا أسرع و{يَزِفُّونَ} من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضًا لتسارعهم إليه {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونه من الأصنام.
{والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم، ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون، أو إنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيها من حذف أو مجاز.
{قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ في الجحيم} في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج، واللام بدل الإِضافة أي جحيم ذلك البنيان.
{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا} فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم.
{فجعلناهم الأسفلين} الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانًا نيرًا على علو شأنه، حيث جعل النار عليه بردًا وسلامًا.
{وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إلى رَبّي} إلى حيث أمرني ربي وهو الشام، أو حيث أتجرد فيه لعبادته.
{سَيَهْدِينِ} إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي، وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله، أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة والسلام حين {قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل} فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
{رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالبة فيه ولقوله: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليمًا وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} وقيل ما نعت الله نبيًا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام، وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} أي فلما جَّد وبلغ أن يسعى معه في أعماله، و{مَعَهُ} متعلق بمحذوف دل عليه {السعي} لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معًا كأنه لَمَّا قال: {فَلَمَّا بَلَغَ السعي} فقيل مع من فقيل {مَعَهُ} وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.
{قَالَ يَا بَُنَيَّ} وقرأ حفص بفتح الياء.
{إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلًا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر، والأظهر أن المخاطب إسمعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جده إسمعيل والآخر أبوه عبد الله، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدًا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإِبل، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقًا، وما روي «أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال: يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه قال: فقال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما.
{فانظر مَاذَا ترى} من الرأي، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله، وقرأ حمزة والكسائي {مَاذَا ترى} بضم التاء وكسر الراء خالصة، والباقون بفتحها وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها.
{قَالَ يَا أَبَتِ} وقرأ ابن عامر بفتح التاء.
{افعل مَا تُؤمَرُ} أي ما تؤمر به فحذفا دفعة، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإِضافة إلى المأمور، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورًا به، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا.
{سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} على الذبح أو على قضاء الله، وقرأ نافع بفتح الياء.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيرًا يرق له فلا يذبحه، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
{وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} بالعزم والإِتيان بالمقدمات. وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارًا فلم تقطع، وجواب {لما} محذوف تقديره كان ما كان مما ينطلق به الحال ولا يحيط به المقال، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} تعليل لإِفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورًا بالذبح لقوله: {يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} ولم يحصل.
{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها.
{وفديناه بِذِبْحٍ} بما يذبح بدله فيتم به الفعل.
{عظِيمٍ} عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبيًا ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين. قيل كان كبشًا من الجنة. وقيل وعلًا أهبط عليه من ثبير. وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإنما قال وفديناه لأن الله المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإِسناد، واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة وليس فيه ما يدل عليه.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سلام على إبراهيم} سبق بيانه في قصة نوح عليه السلام.
{كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} لعله طرح عنه أنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نَبِيًّا مّنَ الصالحين} مقضيًا نبوته مقدرًا كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملًا فيهما مثلًا و{بشرناه} بوجود إسحاق أي بأن يوجد إسحاق نبيًا من الصالحين، ومع ذلك لا يصير نظير قوله: {فادخلوها خالدين} فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحق لم يكن مقدرًا نبوة نفسه وصلاحها حينما يوجد، ومن فسر الذبيح بإسحق جعل المقصود من البشارة نبوته، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإِطلاق.
{وباركنا عَلَيْهِ} على إبراهيم في أولاده.
{وعلى إسحاق} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، وقرئ {وبركنا}.
{وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عمله أو إلى نفسه بالإِيمان والطاعة.
{وظالم لّنَفْسِهِ} بالكفر والمعاصي.
{مُّبِينٌ} ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابها لا يعود عليهما بنقيصه وعيب.