فصل: مطلب صلاة الأوّابين وقصة سليمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب صلاة الأوّابين وقصة سليمان:

وفي حادثة السيد سليمان هذه شرعت صلاة الأوابين وهي من السنن في شريعتنا وتسمّى صلاة الغفلة، لأن سيدنا سليمان غفل عن صلاة العصر بسبب اشتغاله باستعراض الخيل، صلاها بعد المغرب، مع أن المفروض عليه صلاة العصر، فلما غفل عنها صلاها بعد المغرب وقبل العشاء وهو وقت غفلة.
وأقلها ركعتان، وغالبها ست وأكثرها عشرون كما في البيجوري علي ابن قاسم، ونقل الطحطاوي عن شرح الوقاية لشيخي زاده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال أفضل الصلوات عند اللّه المغرب، لم يحطها عن مسافر ولا مقيم، فتح اللّه بها صلاة الليل، وختم بها صلاة النهار، فمن صلّى بعد المغرب ركعتين بنى اللّه له قصرين في الجنة، ومن صلّى بعدها أربعا غفر له ذنوب عشرين سنة، وقال المنادي الصلاة بين العشاءين هي ناشئة الليل المنوه بها في الآية 6 من المزمل المارة.
وقال الغزالي إحياء ما بين العشاءين سنة مؤكدة، ولهذا البحث صلة في الآية 25 من الإسراء الآتية فراجعها، واذكر يا محمد لقومك قصة {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} على سليمان قولا واحدا متفق عليه {بِالْعَشِيِّ} هو من العصر إلى الليل {الصَّافِناتُ الْجِيادُ} سميت الخيل صافنات لأنها تصفن أي تقوم على ثلاث وطرف الرابعة وسميت جيادا لسرعة ركضها وجريها، وما لم يكن كذلك فهي الكدش أي غير الأصيل من الخيل، وبقي يستعرضها حتى غابت الشمس فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} سميت الخيل خيرا لسبق الخير فيها لأنها آلة الجهاد، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} الآية 60 من الأنفال في ج 3.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» ومصداق هذا الحديث ظاهر لأنه مع احداث العجلات والسيارات والطيارات وغيرها لم يستغن عن الخيل، أي آثرتها فأشغلتني {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} في صلاة العصر لأنها مكتوبة عليه، وعلى أبيه قبله كتبت صلاة الظهر، ولا زال يستعرضها {حَتَّى تَوارَتْ} الشمس {بِالْحِجابِ} أي غربت ولم تر.
وقيل الحجاب جبل دون جبل ق بمسيرة سنة تغرب الشمس وراءه وبعض أهل العصر يقولون: ق هو جبل القوقاز وسيقولون غير هذا إذا انكشف لهم غير ما اطلعوا عليه الآن من مكنونات اللّه تعالى القائل {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الآية 85 من الإسراء الآتية وعود الضمير إلى غير معهود إذا كان معلوما جائز.
راجع تفسير {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} المارة لاسيما وذكر العشى قبله ولما رأى عليه السلام أنه اخطأ بتمادي استعراضه لضياع صلاة العصر، قال لحرسه {رُدُّوها عَلَيَّ} فردوا الخيل عليه {فَطَفِقَ} شرع يضربها {مَسْحًا} ضربا شديدا مبرحا {بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} وكان ذلك جائزا في شريعته لأن فيها، من يتسبب بالذنب يعاقب عليه كفاعله، وهذا مخالف لشريعتنا لأن فيها: «جناية العجماء جبار» وجاء في التنزيل {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} الآية 38 من النجم المارة ومثلها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 15 من الإسراء الآتية، وفي الآية 162 من الأنعام، والآية 7 من الزّمر في ج 2.
وكان في شريعته يجوز أكل لحم الخيل فلا تترك بعد قتلها عبثا، ولأنه يعتبر أن قتلها كفارة لما فرط منه في شريعته، وشكرا للّه حيث ردّ له الشمس وأدى صلاته على قول آخر، مروي عن علي كرم اللّه وجهه، وقد سبق أن ردت الشمس لسيدنا يوشع عليه السلام كما سيأتي بيانه وسببه في تفسير الآية 24 من سورة المائدة في ج 3.

.مطلب في رد الشمس لسيدنا محمد وغيره:

وقد صارت هذه المعجزة لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم أيضا إذ ردت له الشمس حينما شغله المشركون بحفر الخندق يوم الأحزاب، وصلّى العصر، وهي مشهورة متعارفة، وردت لعلي كرم اللّه وجهه حينما نام المصطفى في حجره كما روى عن أسماء رضي اللّه عنها وروى الطبراني في معجمه بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة، وكان احمد بن صالح يقول لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة، وفيه بالغ ابن الجوزي وابن تيمية في عدم صحته حتى عدّاه من الموضوع وهذا هو ديدنهما رحمهما اللّه، في كل ما كان من شأنه أن يعد كرامة أو خارقا للعادة، على أن انكار هذا قد يؤدي إلى انكار انشقاق القمر وما وقع في الإسراء والمعراج وأن ما أورده من الطعن فيه هو ذاك لا غير فراجعه في أوائل سورة القمر المارة لينشرح صدرك وتتيقن مغالاة النافين له، هذا وما جرينا عليه في تفسير هذه الآية أولى من التفسير بخلافه لأن ظاهر الآية يؤيده وسياق التنزيل يؤكده وهدف العقل يأبى غيره.
ثم إن بعض المفسرين أعاد ضمير {توارت} إلى الخيل وهو غير وجيه، ولا يستحسن عود ضميرين إلى كلمة واحدة إذ يصير المعنى حتى توارت الخيل رودا على الخيل وأن صاحب هذا القول يعبّر عن الحجاب بالاصطبل، قال الإمام الرازي في تفسيره:
احتاج سليمان عليه السلام إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وإجرائها أمامه حتى غابت الشمس عن بصره، ثم أمر برد الخيل اليه، وهو قوله تعالى: {رُدُّوها عَلَيَّ} فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها عونا في دفع العدو، وليظهر للناس حيطته لسياسة الملك، حتى أنه يباشر هكذا أمرا بنفسه، وانه عالم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، وقال هذا التفسير ينطبق على لفظ القرآن.
على أن مسح تأتي بمعنى ضرب في اللغة الفصحى وعليه يكون ما مشينا عليه من تأويل المسح بالضرب لا يخالف ظاهر القرآن الذي جعلناه أساسا في تفسيرنا هذا وبعض المفسرين أعاد ضمير {رُدُّوها} إلى الملائكة أي ردوا عليّ الشمس أيها الملائكة لأصلي العصر مستدلا بما جاء عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال معنى ردوها علي يقوله للملائكة الموكلين بالشمس ردوها عليّ بأمر اللّه، فردوها حتى صلّى العصر بوقتها، على أنه لو كان لهذا القول صحة لقال سليمان لرب الملائكة لأنه أعلى رتبة منهم، وأقدم عند ربهم فكان الأجدر أن يخاطب ربه لا الملائكة فضلا عن أنه لم يسبق ذكر للملائكة حتى يعود الضمير إليهم.

.مطلب قصة سليمان عليه السلام:

وقال القصاص والأخباريون: إن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس وصلّى الظهر وقعد على كرسيه واستعرضها فعرض له تسعمائة رأس ثم تنبه لصلاة العصر عند غروب الشمس، ولم يقدر أحد من رجاله أن يعلمه بضيق الوقت لعظمة هيبته، فاغتمّ لذلك، وقال ردوها عليّ، فصار يضرب سوقها وأعناقها بالسيف.
كفارة لما وقع منه، وتقربا إلى اللّه تعالى وطلبا لمرضاته، وإعلاما بأنها من حطام الدنيا، وأن الدنيا لا قيمة لها عنده، وأن ذلك كان مباحا في شريعته، وبقي منها مائة فرس، وأن جلّ ما في أيدي الناس من نسلها، فأبدله اللّه خيرا منها إذ سخر له الريح وجعلها تحت أمره كما سيأتي.
وقد ذكرنا أن أقوال القصاص والأخباريين لا ننقلها ثقة بصحتها لأنهم مولعون بنقل كل غريب من غير تثبيت، ولكن ننقلها على طريق الاستئناس أسوة بأكثر المفسرين للاطلاع عليه، إذ قد يوافق نقلهم الواقع أحيانا كما هي الحال هنا من حيث المعنى على ما نرى، ولا ننقل إلا المعقول منه شرعا، وهذا مما يوافق ما جرينا عليه في التفسير قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ} ابتليناه لنختبره كسائر الأنبياء الذين امتحناهم لنظهر له وللناس ما كان معلوما ومدونا في لوحنا من قصة {وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ} المختص بجلوسه للملك {جَسَدًا} لا روح فيه {ثُمَّ أَنابَ} إلى ربه وندم على ما وقع منه، وخلاصة قصته أنه ولد له ولد فقالت الشياطين لئن عاش لم ننفك عن الخدمة كما هي الحال في زمن أبيه، وتآمروا على قتله، فلما علم بذلك صار يغذيه في السماء خوفا عليه منهم فلم يحس إلا وقد ألقي ميتا على كرسيه فتنبه بأنه لم يتوكل على اللّه بشأنه، فطلب مغفرة ربه فغفر له، يؤيد هذا ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه ولم يقل إن شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل إلا واحدة منهن جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون، وجاء مثله في صحيح البخاري عدا أربعين بدل سبعين وزيادة أن الملك قال له إن شاء اللّه فلم يقل، فالشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه عقوبة له لأنه لم يستثن، وفيه قال المعري:
خاف غدر الأنام فاستودع ** الريح سليلا تغذوه درّ العهاد

ومكسور له النجاة وقد يو ** قن أن الحمام بالمرصاد

مكسور به على جانب الكر ** سي أم اللهيم أخت الناد

أي الميتة الداهية، والعهاد الأمطار المتتابعة، وغاية ما وقع منه عليه السلام عدم الاستثناء وهذا عبارة عن خلاف الأولى وليس بذنب، وإنما عده ذنبا لأن ترك الأفضل والأولى وما لا يعد ذنبا عند الغير، وصغار الذنوب أيضا تعدها الأنبياء ذنوبا كبارا بالنسبة لمقامهم، لأنه إذا كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمن باب أولى أن تكون هذه من الكبائر عند الأنبياء والمرسلين، ويحتمل أن هذا الشق هو الذي رباه بالسحاب على ما جاء في القصة، أما ما ذكره وهب بن منبه من أنه أمر الشياطين أن تصور له أبا زوجته التي أصابها بالغزو في جزيرة حيدون وصارت هي وجواريها يسجدن عند غيابه حتى أخبره آصف بن برخيا بعد أربعين يوما، ونسي أن شيطانا جاء إلى أم ولده أمينة بصورته وأخذ خاتمه منها وكان ملكه فيه وكان يضعه عندها إذا دخل الخلاء أو أتى إحدى نسائه، وأن ذلك الشيطان لبس الخاتم وجلس على كرسيه، وأن سليمان جاء إلى أمينة وطلب منها الخاتم فقالت لست بسليمان وقد أعطيته له، وانه إذ ذاك عرف خطيئته، وصارت الناس تحثو عليه التراب كلما قال أنا سليمان، وبقي أربعين يوما ينقل الحيتان لأهل السوق بالأجرة وهي مدة عبادة الصنم في بيته، وأن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حاله في التشبيه وسألوا نساءه فقالوا مثل ذلك، ولما علم الشيطان ذلك طار وطرح الخاتم في البحر فبلعته سمكة أعطاها الصيادون لسليمان عن أجرته فبقر بطنها ليشويها فوجد الخاتم فلبسه ووقع ساجدا للّه تعالى ورجع كما كان وغير هذا من الترهات كذب محض من أباطيل اليهود أهل الجحود الناقضين للعهود أهل كل شر في الوجود، والعجيب كل العجيب كيف نقلوا هذه الحكاية السخيفة مع ما فيها من الطعن في عصمة الأنبياء المتفق عليها وعلى حصانة نسائهم الطاهرات، قال الحسن ما كان اللّه سبحانه ليسلط الشيطان على نساء نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ثم إنه عليه السلام سأل ربه المغفرة عما وقع منه، {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} كثير العطاء غزير المن وهذا لا يقصد التفوق على غيره من الأنبياء لأن الملك يعطى للنبي وغيره بل يقصد المعجزة الخارقة للعادة لأن ملكه إذا لم يكن بالغا المنتهى لم يكن معجزة خارقة وأنه عليه السلام أراد بدعوته هذه تخصيصه بشيء خاص كما خصص أباه من قبله بإلانة الحديد وغيرها ولم يكن حرصا على الدنيا والانغماسة فيها وانظر لقول المعري:
إذا غامرت في شرف مروم ** فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير ** كطعم الموت في أمر عظيم

يرى الجبناء أن الجبن حزم ** وتلك خديعة الطبع اللئيم

وروى في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: إن عفربتا من الجن انفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني اللّه منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان في الآية المارة فرددته خاسئا، فيعلم من هذا أن اللّه تعالى أعطى حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم جميع معجزات الأنبياء أي في نوعها كلها وهو كذلك قال تعالى مجيبا لدعوته {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً} لينة لا تزعج الراكب عليها فتعدمه الراحة إتماما للنعمة فتوصله {حَيْثُ أَصابَ} قعد وأراد في الامكنة التي يرومها دون انزعاج {و} سخرنا له أيضا {الشَّياطِينَ} جميعهم ثم خص منهم على طريق البدلية {كُلَّ بَنَّاءٍ} يبتون له ما يشاء من محاريب وقصور {وَ} سخرنا أيضا منهم {كلّ غَوَّاصٍ} ماهر في غوص البحار ليخرجوا له الدر واللؤلؤ وغيره {وَآخَرِينَ} من الجن المسخرين تركهم {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} والاغلال بالقيود والجوامع، ومنها الأغلال التي توضع بالأعناق، لأن الجوامع لليدين والاغلال لها والرأس ويطلق الغل على العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه قال علي كرم اللّه وجهه من برّك فقد أسرك، ومن جفاك فقد أطلقك، وقال غيره، غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها، قال أبو تمام:
هممي معلقة عليك رقابها ** مغلولة إن العطاء إسار

وقال المتنبي:
وقيدت نفسي في ذراك محبة ** ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

إلا أنهم فرقوا بين الفعل فقالوا صفده قيده وأصفده، أعطاه عكس، وعد وأوعد وقد صفد هذه الطائفة بأمر اللّه درأ لأذاهم الناس لعلمه تعالى أن ذاك ديدنهم قال تعالى: {هذا} العطاء العظيم {عَطاؤُنا} أيها الناس فتعرضوا له نصبكم منه {فَامْنُنْ} به يا عبدنا سليمان إلى من شئت وأحسن به على من أردت فهو غير نافد {أَوْ أَمْسِكْ} امنع من شئت منه من لا تريد إعطاءه وارفع رفدك عنه فأنت مخير بذلك مطلق الارادة {بِغَيْرِ حِسابٍ} عليك فيما تعطي وتمنع وهذه خصوصية له عليه السلام لأنه يؤجر إن أعطى ولا يأثم إذا منع بخلاف غيره {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا} نحن الإله العظيم المانّ عليه بما ذكر عدا ذلك {لَزُلْفى} قربة وكرامة {وَحُسْنَ مَآبٍ} في الآخرة وقد جمع له خيرهما وهو للآخرة أتوق لأنها دار راحة ونعيم دائم وفيها يقول المعري:
متى أنا للدار المريحة ضاعن فقد ** طال في دار الفناء مقامي

وقد ذقتها ما بين شهد وعلقم ** وخبرتها من صحة وسقام

وقال أبو العتاهية:
ألم تر ريب الدهر في كل ساعة ** له عارض فيه المنية تلمع

أيا باني الدنيا لغيرك تبتني ** ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع

أرى المرء وثابا على كل فرحة ** وللمرء يوما لا محالة مصرع

هذا ومن عرف أن هذا حال الدنيا رغب عنها إلى الآخرة.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ} في معرض الأنبياء المبتلين أمثالك يا محمد {إِذْ نادى رَبَّهُ} لما اشتد به البلاء فقال يا رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ} اتعاب كثيرة ومشقات {وَعَذابٍ} أضربي لا طاقة لي عليه يا رب فأعني فأجابه بقوله جل جلاله {ارْكُضْ} اضرب الأرض {بِرِجْلِكَ} فضربها فنبعت ماء فقال له ربه {هذا} الماء لك منه {مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} تشرب منه فاغتسل فذهب ما فيه ظاهرا من آثار المرض، وشرب فذهب ما فيه من آلامه الداخلية {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ} أي مثل ما فقد له منهم من المال والولد {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} على سبيل التفضل {رَحْمَةً مِنَّا} وجزاء لصبره على ابتلائنا وثباته على عبادتنا {وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} العقول السليمة والبصائر الحاذقة، ليعلموا أن من صبر على بلائي ولم يضجر وشكر نعمائي ولم يفرح، أعامله معاملة أخصّائي، ثم بين له المخرج من صلفه كما سيأتي في القصة بعد مفصلة في الآية 84 من الأنبياء في ج 2، وكذلك قصص الأنبياء الآتي ذكرهم فراجعها، ثم قال له {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} حزمة حشيش صغيرة بملء اليد.
{فَاضْرِبْ بِهِ} امرأتك التي حلفت عليها أن تجلدها {وَلا تَحْنَثْ} بيمينك لأن البرّ به واجب.