فصل: مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب التخفيف وكفارة اليمين بحيلة في محله الملائم:

وقد حلل اللّه يمينه بأهون شيء عليه وعليها شكرا لصبرها عليه مدة مرضه الحكم الشرعي اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها بيده وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك والليث بن سعد وأحمد لا يبرّ، وقال مجاهد: هذا خاصّ بأيوب عليه السلام.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا ضربه بها ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد برّ بيمينه، استدلالا بهذه الآية.
وقال ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح إنه يبرّ مطلقا بقطع النظر عن خصوص السبب.
وهذا هو الأوفق بالقاعدة وهي العبرة للعام ما لم يقيّد، وهذا إذا استوعبت يد الضارب المائة سوط لا المائة قصلة من الحشيش لأنها خاصة ولا يسقط بها الحنث، ويشترط أن يصيب جسد المضروب كل واحد منها وإلا لا، وسنأتي على بحث كفارة اليمين وما يتعلق بها في الآية 92 من المائدة في ج 3.
قال تعالى مبينا سبب إعطائه ضعفي أهله رماله وولده وتخفيف الكفارة عليه بقوله: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا} على بلائنا ولم يشك منه ولم يضجر ولم يتوسل بغيرنا على كشفه ولذلك أجبنا دعوته وزدناه على ما طلب لأنه أظهر لعدوه إبليس وللناس أنه يعبدنا لذاتنا لا للمال والولد والأهل وغيرها، وإنما أفتيناه بتخفيف الكفارة لأنه حلف عليها من أجلنا بسبب المحنة التي قدرناها عليه {نِعْمَ الْعَبْدُ} أيوب الصابر الشاكر {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلينا كثير الأيادي على غيرنا {وَاذْكُرْ} يا أكمل الرسل {عِبادَنا} الصابرين الشاكرين أمثال أيوب {إِبْراهِيمَ} إذ امتحناه بإلقائه بالنار واختبرنا وفاءه بالعهد حينما ألقي فيها، إذ جاءه جبريل ليغيثه فقال: إني عاهدت ربي أن لا أسأل غيره.
وقد قال له سله ليكشف عنك فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي {وَإِسْحاقَ} إذ ابتلي بالذبح وهذا على القول بأنه هو الذبيح وليس بشيء كما سنبينه في الآية 88 من يوسف في ج 2 ولعله ابتلي ببلاء آخر لم نعلمه أو بما كان على أبيه وأخيه إسماعيل عليهم السلام {و يعقوب} إذ ابتلي بفقد ولده وغشاوة بصره من البكاء عليه {أُولِي الْأَيْدِي} القوة العاملة على الطاعة والعبادة والجهاد والصبر على المصائب وعدم الاستعانة بغير اللّه، وفي هذه الآية تنديد على أولي البطالة والكسالى بأمر الدين والدنيا لأن اللّه يبغض العبد البطال وكتبت الأيدي بالياء ويجوز حذفها بلا حاذف كياء يسر في الآية 4 من الفجر المارة وقوله: {وَالْأَبْصارِ} جمع بصيرة لا جمع بصر لأن البصيرة تجمع على أبصار وبصائر والمراد بها هنا واللّه أعلم القوة العالمية والمعرفة الحاذفة اللتين يصدر عنهما معرفة اللّه والعلم بخصائص مكوناته فهؤلاء وأمثالهم {إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ} لعبادتنا {بِخالِصَةٍ} أي خصلة خالصة لا شوب فيها {ذِكْرَى الدَّارِ} الدائمة وهي الآخرة أي اصطفيناهم ليذكروا الناس في الآخرة فيعملوا لها يزهدوهم في الدنيا لئلا يتوغلوا فيها {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا} بسبب صبرهم وشكرهم وتفاديهم في سبيلنا وقيامهم بأوامرنا {لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} المصفّين من الأدناس المختارين من جنسهم {وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ} المبتلين الصابرين أيضا {و كلّ} منهم عندنا {مِنَ الْأَخْيارِ} إذ كل منهم امتحن واختبر فرضي وشكر وسنأتي على قصة كل منهم بانفراده عند ذكره إن شاء اللّه كي لا تتكرر وقد عدد اللّه تعالى جمعا من رسله المصابين بالبلاء بأجسادهم وأهلهم ومن قومهم تسلية لحضرة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وتشجيعا له على تحمل أذى قومه وجفاهم له والصبر على سوء أخلاقهم معه إرشادا لأن يسلك طريقهم ويقتفي أثرهم ويفكر بما كان على هؤلاء الأبرار من أقوامهم الفجار، وكيفية نصرهم عليهم بالوقت الذي قدره، لا الذي أرادوه، وانه سينصره عليهم بالوقت المقدر لذلك في علمه الأزلي.
قال تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} الآية 85 من مريم الآتية قال تعالى: {هذا} الذي نتلوه عليك يا محمد {ذِكْرٌ} عظيم شريف جميل يذكر فيه هؤلاء الأنبياء الأبرار مدى الدنيا {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} هؤلاء وأمثالهم في الآخرة {لَحُسْنَ مَآبٍ} مأوى جليل ومرجع كريم هو {جَنَّاتِ عَدْنٍ} خالدة وحينما يأتونها يرونها {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ} حيث تتقدمهم الملائكة فتفتحها لهم زيادة في إكرامهم لا يكلفون فتحها بأيديهم ومفتحة هنا واقعة حالا كالواو في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} الآية 73 من الزمر في ج 2 فإنها واو الحال ولهذا البحث صلة في تفسير هذه الآية، هناك يجلسون في تلك الجنان حالة كونهم {مُتَّكِئِينَ فِيها} على الأرائك الطرية القوية زيادة في البسط والتنعم {يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} متنوعة مختلفة بالطعم واللون والشكل والرائحة {وَشَرابٍ} كثير يحضر لهم معها وحذفت كلمة كثير هنا لدلالة الأولى عليها راجع الآية 17 من ق المارة تجد الشاهد والمثل {وَعِنْدَهُمْ} مع ذلك النعيم العظيم بنات أبكار {قاصِراتُ الطَّرْفِ} على كل منهم دون غيره فكل زوجة مقصور نظرها على زوجها فقط، وفي تمام السرور أنهن {أَتْرابٌ} متساوين في السن والحسن والخلق والخلق وكل منهم يتحقق أن زوجته لا مثيل لها وكذلك الزوجة {هذا} الذي أعددناه لكم في الدار الآخرة أيها المتقون هو {ما تُوعَدُونَ} به في كتبنا على لسان رسلنا مهيا لكم {لِيَوْمِ الْحِسابِ} والجزاء على الأعمال {إِنَّ هذا} كله وأضعافه معه {لَرِزْقُنا} الذي قدرناه لكم جزاء أعمالكم {ما لَهُ مِنْ نَفادٍ} دائم أبدا إذا أخذت منه شيئا صار مثله مكانه لا ينقص أبدا فهو باق كالدار الآخرة باقية لا نفاد لها ولا يتطرق لما فيها تغيير أو تبديل بخلاف ما في الدنيا فإنه معرض لذلك وللفناء مثلها {هذا} الأمر الذي ذكرناه لمن ذكرنا من عبادنا الخاشعين الخاضعين لأوامرنا، وفي هذه الاشارة تنبيه على هول ما قاله تعالى بعدها وهو {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} مرجع قبيح ومصير مخزي ومأوى مخجل، وهذا بمقابلة ما للمتقين. ثم بين ذلك المآب بقوله: {جهنم} يجوز أن تكون بدلا من المآب أو عطف بيان وهي منصوبة على الذم {يَصْلَوْنَها} يحرقون فيها حرقا فظيعا {فَبِئْسَ الْمِهادُ} جهنم المخصوصة بالذم فهي شر الفراش أعاذنا اللّه منها {هذا} العذاب الأليم {فَلْيَذُوقُوهُ} الطغاة أعداء اللّه فهو {حَمِيمٌ} ماء شديد الغليان {وَغَسَّاقٌ} ماء آخر شديد البرودة يؤذي كالشديد الحرارة، ألم تر أيها القارئ فعل البرد في الزرع كيف يصيره أسود كأنه محروق بالنار لا بالحر الشديد لأنه يسوده بل ييبسه فقط وقد تصيبه سمرة راجع الآية 5 من الأعلى المارة قال تعالى: {وَآخَرُ} نوع وجنس آخر من العذاب {مِنْ شَكْلِهِ} أي الحميم والغساق {أَزْواجٌ} كثيرة وأضعاف متنوعة ثم يقال للقادة والرؤساء إذا أدخلوا النار وجاءت الزبانية بأتباعهم وزجوهم فيها معهم {هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} العذاب أيضا كما اقتحموا أسبابه معكم في الدنيا، أي هؤلاء أتباعكم الضلال فيقولون {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} ضاقت الدار بهم لا وسعت وهذا على ما تعورف عند العرب إذ يقولون للقادم مرحبا أي دارنا رحبة واسعة بمقدمك، وأهلا أي نزلت على أهلك، وسهلا أي ما تطلبه يسر علينا إنفاذه هذا إذا كان خيرا وإذا كان شرا فبالعكس، كما هنا، ويقولون {إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ} مثلنا فيردون عليهم بقولهم: {قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} لأنكم رؤساؤنا بالكفر والشرك والضلال والإضلال لأنكم {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ} أي العذاب المذكور {لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ} الذي أوصلتمونا اليه ثم يبادرون بالدعاء عليهم إذ لم تنفعهم المخاصمة. {قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا} العذاب الأليم أي تسبب به {فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} لضلالهم أنفسهم وإضلالهم إيانا {وَقالُوا} أي الرؤساء والقادة الطغاة بعضهم لبعض، الأولون والآخرون، ومنهم بغاة قريش {ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ} في الدنيا يعنون بذلك أتباع الرسل إذ كانوا يسمونهم في الدنيا أشرارا قال قوم هود لهود عليه السلام {ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا} الآية 27 من ج 2 وقال قوم محمد لمحمد عليه الصلاة والسلام أنؤمن كما آمن السفهاء الآية 13 من البقرة حتى أن قريشا لم ترض بمجالسة فقراء المسلمين كما سيأتي في الآية 51 من الأنعام والآية 27 من الكهف في ج 2 وقالوا أيضا {أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} بهمزة الاستفهام أسقطت معها همزة الوصل أي ما لهم لم يدخلوا معنا النار وكنا نسخر منهم في الدنيا ولا نرضى مجالستهم، سموهم أشرارا لكونهم على خلاف دينهم، وأراذل لأنهم فقراء {أم} أنهم موجودون ولكن {زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ} فلم ترهم لكثرة أهل النار، واعلموا أيها الناس {إِنَّ ذلِكَ} الأخذ والرديين التابعين والمتبوعين {لحق} واقع لأنه {تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} في النار كائن لا مرية فيه وهذا التشاحن بين العابدين والمعبودين والضالين والمضلين لا محالة صائر بينهم في بعض مواقف القيامة راجع الآية 35 من المرسلات المارة والآية 21 من إبراهيم في ج 2 والآية 166 من البقرة في ج 3 {قُلْ} يا سيد الرسل لمشركي قومك {إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ} لكم من هذا المصير السيء {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} لكل شيء وأن ما تزعمونه من الآلهة كلها مخلوقة للّه ومقهورة له لا تملك من خلقه شيئا ولا لنفسها نفعا وأن إلهي {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يمتنع عنه شيء {الْغَفَّارُ} لمن رجع اليه نادما من ضلاله وأن عظمت ذنوبه كرما منه لأنه واسع المغفرة.
قال الأبوصيري:
يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت ** إن الكبائر في الغفران كاللمم

أي إذا أراد غفرانها راجع الآية 52 من سورة الزمر في ج 2 {قُلْ} يا أكمل الرسل لقومك أن هذا الذي أنبأتكم به من حالتي أهل الجنة والنار وكوني رسولا منذرا بأن الإله واحد وأن القرآن منزل من لدنه وأن شركاءكم لا يغنون عنكم من اللّه شيئا {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} قدره، جليل أمره، ولكنكم {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} مع أنه لا يغفل عنه ويجب الانتباه له والتمسك به وأن اللّه تعالى أنزله إليّ لأقصه عليكم والا أنا {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ} أبدا {بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} لأني لم اقرأ الكتب القديمة ولا أحسن الكتابة لأنقلها إليكم وأن جميع ما قرأته لكم من الآيات وما سأتلوه عليكم بعد ليس من نفسي {إِنْ يُوحى إِلَيَّ} أي ما علمته إلا بوحي إليّ من اللّه {إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ} لكم من عذاب اللّه وبشير لكم بما عنده للمؤمنين {مُبِينٌ} ما يأمرني به ربي وشارح لكم عاقبة أمره معكم وكلما أذكره لكم عن الملأ الأعلى وعن أحوال الدنيا والآخرة ما هو من تلقاء نفسي، إنما هو بوحي منه، وأراد بالملأ الأعلى الملائكة وبالخصومة هو ما وقع بينهم وبين آدم عليه السلام مما قصه قبل وما يقصه بعد من اعتراضهم على خلافته كما سيأتي في الآية 30 من البقرة في ج 3.
قال تعالى واذكر يا محمد لقومك {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} لا من نور كالملائكة ولا من نار كالجن {فَإِذا سَوَّيْتُهُ} أتممت خلقه كما هو في علمي {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أضاف الروح لنفسه المنزهة على سبيل التشريف اضافة ملك كبيت اللّه وناقة اللّه، والروح جوهر لطيف يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء، والنار في الفحم، والماء في العود، والشمس في الظل، والرائحه في الماء، أي إذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة المقدسة الشريفة التي هي أمري وجعلته حيا حساسا متنفسا {فَقَعُوا لَهُ} حالا بلا توان {ساجِدِينَ} تعظيما له واحتراما لقدرتي حيث خلقته من تراب على غير مثال سابق وجعلته على أحسن صورة، فلما سمعوا ما أمرهم به ربهم أجابوه فورا كما يدل عليه قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} لم يتخلف منهم أحد امتثالا لأمره {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} على ذلك المخلوق آدم عليه السلام الذي اصطفاه اللّه واجتباه أن يكون أبا لأكمل الخلائق وأحسنها {وَكانَ} هذا الخبيث بسبب امتناعه عن السجود {مِنَ الْكافِرِينَ} الملعونين المطرودين قالَ تعالى {يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} على آدم الذي توليت خلقه بنفسي {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} المتفوقين عليه، والعالون صنف من الملائكة المقربين كحملة العرش والروح، قيل إن هؤلاء لم يؤمروا بالسجود وإنما الأمر صدر من اللّه تعالى لعوام الملائكة، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فلا أسجد لمن هو دوني لانك {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية 11 من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي:
إنما الورد من الشوك وما ** ينبت النرجس إلا من بصل

قد يسود المرء من غير أب ** وبحسن السبك قد ينفى الدغل

لكنه عليه اللعنة لم يكن هذا قصده ومغزاه وإنما أراد التكبر عليه لأنه يقول في نفسه قبل أن يصرح بما انتحله من السبب والعلة أنه لو فرض أنه خلق من النار ما سجدت له لأنه مثلي فكيف وقد خلق من الطين ويريد التفوق علي فإني أن سجدت له صرت دونه ولا أرضى لنفسي الدون.
هذا وجاء لفظ أستكبرت بهمزة الاستفهام وأصلها بهمزة الوصل ولكن لما دخلت همزة الاستفهام حذفتها ويجوز بدون الاستفهام لدلالة {أم} التي أتت بعدها عليها {قال} تعالى تنفيذا لما هو في سابق علمه الأزلي أن يكون {فَاخْرُجْ مِنْها} أي الجنة، وإنما رمز إليها بالضمير ولم يسبق لها ذكر لشهرة كونه من سكانها، والمعلوم دائما يرمز إليه بالضمير كما بيناه في أول سورة القدر المارة وزاد في إخسائه بقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} طريد منها {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ} الجزاء والحساب ولا يقال أن غاية هذه اللعنة منتهية إلى يوم القيامة، لأنه إذا كان مطرودا في أوان الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر فلأن يكون مطرودا في غير أوانها يوم القيامة من باب أولى لأن الرحمة فيها خاصة بالطائعين وكيف تنقطع وقال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية 43 من الأعراف الآتية وعلى هذا فإن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له عليها من أجناس العذاب ما ينسيه إياها ويكون كأنها انقطعت عنه، والرجيم في الآية الاولى محمول على الطرد من الجنة والمعنى في الآية الثانية محمول عن الطرد من الرحمة فلا تكرار فيهما ولما أيس الخبيث ورأى أن صورته تغيرت عما كانت عليه لظهور آثار غضب اللّه عليه حيث اسود جسمه وازرقت عيناه بعد أن كان يباهي الملائكة بخلقه وعرف أن لا يبدل قول اللّه ولا يتغير لفرط حذاقته التي استعملها بالخبث {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} أخرني ولا تمتني {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يعني آدم وذريته، وقد استمهل الملعون ليتمادى في البغي والطغيان وليجد فسحة للاضلال مع علمه أن لا سبيل للبقاء ليأخذ ثأره من آدم وذريتة باغوائهم وعلى زعمه أنه بإجابة دعوته ينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث موت وهو أمر معروف عند الملائكة وقد كان معهم كأنه منهم ولشدة مخالفته لهم علموا أنه منهم قالَ تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} جمع الضمير مع عدم وجود منظر غيره لأن الذين يحضرون القيامة الاولى منظرون إليها بآجالهم فجعله منهم في هذه الحيثية ليس إلا وهذا الانظار {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} للنفخة الأولى الموقت والمقدر لموت كافة الخلق اجمع ولما لم يفز الملعون ببغيته كما أراد صرح لربه عما في ضميره، وهو أعلم به {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} آدم وذريته ولما عرف أنه لم يقدر على إغواء الجميع استثنى فقال: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام اي الذين استخلصتهم لعبادتك وبكسرها أي المخلصين لك منهم، أقسم الخبيث بسلطان اللّه وقهره على إغواء عامة الخلق اولا، ثم استثنى منهم من لم يقدر على اغوائه والتوصل إليه لا لأجل إخلاصهم، قاتله اللّه ما ألعنه قالَ تعالى {فَالْحَقُّ} أنا الإله القاهر {وَالْحَقَّ أَقُولُ} أقسم بذاته جلت وعلت وهذا أعظم قسم به {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} نفسك وذريتك وجنسك من الشياطين والجن والمردة {مِمَّنْ تَبِعَكَ} في الإغواء والضلالة والغواية والإضلال {مِنْهُمْ} من ذرية آدم الذين أقسمت على إغوائهم {أَجْمَعِينَ} توكيد للضميرين في منك ومنهم أي التابعين والمتبوعين.
وليعلم القارئ الفطن أن هذه القصة قد تكرر في سور أخرى كثيرة في القسم المكي والمدني ولكن يوجد في بعضها ما لا يوجد في الأخرى للايجاز، وقد يكون فيها لفظان متحدان مآلا، مختلفان لفظا رعاية للتفنن وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال إنه أقسم مرة بعزة اللّه كما هنا وأخرى باغوائه كما في الأعراف الآتية في الآية 67، وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقام كإثبات الفاء هنا في {فانظرني} وتركها في الأعراف وغيرها، فالذي يجب اعتباره هو أصل المعنى ونفس المدلول، وحيث أن مقام الحكاية اقتضى ذلك وهو ملاك الأمر، فلا يخلّ تغير الألفاظ في أصل المعنى كما ترى، وسنأتي على تفصيل القصة في الآية المذكورة من الأعراف إن شاء اللّه بأوضح من هذا.
قال تعالى يا محمد {قُلْ} لقومك أن ما أنذركم به عن اللّه واجب عليّ حتما تنفيذا لأمر اللّه به واثبه إليكم مجازا {ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ما أبدا ولا أطلب منكم جعلا البتة {وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} المتعصّبين المتحلّين بما ليسوا من أهله، ولا المتخلفين المتقولين من أنفسهم، ولا من المدعين بما ليس عندهم حتى أنتحل لكم وأتقول بالقرآن والادعاء بالنبوة {إِنْ هُوَ} الذي أنذركم به ليس {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} أجمع، أنزله اللّه عليّ لأذكركم به علّكم تتعظون بأوامره ونواهيه {و} إن لم تفعلوا وعزة ربي وجلاله {لَتَعْلَمُنَّ} يا قومي ويا أيها الناس أجمع {نَبَأَهُ} الصادق وخبره الحق اليقين {بَعْدَ حِينٍ} أي مطلق زمن معلوم عند اللّه لم يظهر لأحد، إلا أن الآية تفيد أن من بقي حيا علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا، ومن يموت علمه بعد موته، والكل يعلمه يوم القيامة حقا، قال الحسن: عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
أخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة، قلنا بلى يا رسول اللّه، قال: هم الرحماء بينهم، قال ألا أنبئكم بأهل النار، قلنا بلى يا رسول اللّه قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون».
والمتكلف من ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم.
وروى البخاري ومسلم عن مسروق قال دخلنا على ابن مسعود فقال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم اللّه أعلم، قال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} الآية المارة، فعلى العاقل أن يتعظ بما تضمنه هذا الخبر الكريم.
هذا، وأستغفر اللّه، واللّه أعلم ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه واتباعه ومن تبعهم بإحسان أجمعين إلى يوم الدين. اهـ.