فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {ما عرضتم به} ما موصولة، وما صْدَقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام، وقد بينه بقوله: {من خطبة النساء} فدل على أن المراد كلام.
ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر، مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب، والجانب هو الطرف، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب.
ونظير هذا قولهم جَنَبَه، أي جعله في جانب.
فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئًا، غير المدلول عليه بالتركيب وضعًا، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة أو مماثلة، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله:
إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يومًا ** كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء

وجعل الطيبي منه قوله تعالى: {وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116].
فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة، وكقول القائل «المسلم من سلم المسلمون من لسانه» في حضرة من عرف بأذى الناس، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة، وإن شئت قلت: المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب الكشاف في هذا المقام، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيهًا بها، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما، فالنسبة بينهما عنده التباين.
وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام الكشاف على هذا، ولا إخاله يتحمله.
وإذ قد تبين لك معنى التعريض، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى. اهـ.

.قال الفخر:

النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام:
أحدها: التي تجوز خطبتها تعريضًا وتصريحًا وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها، بل يستثنى عنه صورة واحدة، وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه» ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقًا لكن فيه ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحًا هاهنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث.
الحالة الثانية: إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة: إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي هاهنا قولان أحدهما: أنه يجوز للغير خطبتها، لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني: وهو القديم وقول مالك: أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضًا على الكراهة، فربما كانت الرغبة حاصلة من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
القسم الثاني: التي لا تجوز خطبتها لا تصريحًا ولا تعريضًا، وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سببًا لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرام، وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة، بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها، وتعتد منه عدة الوفاة، ويتوارثان.
القسم الثالث: أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضًا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضًا لا تصريحًا، أما جواز التعريض فلقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء} وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها، لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية، أما أنه لا يجوز التصريح، فقال الشافعي: لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك، وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب.
القسم الثاني: المعتدة عن الطلاق الثلاث، قال الشافعي رحمه الله في الأم: ولا أحب التعريض لخطبتها، وقال في القديم والإملاء: يجوز لأنها ليست في النكاح، فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما هاهنا تنقضي عدتها بالإقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي.
القسم الثالث: البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها، وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح؛ لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما: يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثًا والثاني: وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية. اهـ.

.قال ابن عطية:

أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قربًا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك. ومن المجوز قول الرجل: إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن يقدر أمر يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة، والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء.
قال القاضي أبو محمد: وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سرًا، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله صلى لله عليه وسلم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنفُسِكُمْ} فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء: للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان: كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى، ومنه: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [النمل: 74]، و{بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وفرق قوم بينهما، فقالوا: كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة، وإن لم يكن مستورًا يقال: در مكنون، وجارية مكنونة، وبيض مكنون، مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت، ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره، وهو ضد أعلنت وأظهرت، والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أو أكننتم في أنفسكم} أي: أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفى عنهما، وقيل: المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة، فأباح الله التعريض، وحرم التصريح في الحال، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالًا من ميل القلب.
{علم الله أنكم ستذكرونهن} هذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، وفيه طرف من التوبيخ، كقوله: {علم الله أنكم كنتم تختانون} وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت، وتتوق إليهن الأنفس، ويتمنى نكاحهن.
وقال الحسن، معنى: ستذكرونهن، كأنه قال: إن لم تنهوا. انتهى.
وقوله: {ستذكرونهن}، شامل لذكر اللسان وذكر القلب، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جاريًا على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللاَّحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن هذه المخالفة ترمي إلى غرض، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر، وقد زاد ذلك إيضاحًا بقوله عقبه: {علم الله أنكم ستذكرونهن} أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم، فأباح لكم التعريض تيسيرًا عليكم، فحصل بتأخير ذكر {أو أكنتم} فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله: {علم الله أنكم ستذكرونهن} وجاء النظم بديعًا معجزًا، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ. اهـ.

.قال أبو حيان:

{علم الله أنكم ستذكرونهن} هذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، وفيه طرف من التوبيخ، كقوله: {علم الله أنكم كنتم تختانون} وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت، وتتوق إليهن الأنفس، ويتمنى نكاحهن. وقال الحسن، معنى: ستذكرونهن، كأنه قال: إن لم تنهوا. انتهى.
وقوله: {ستذكرونهن}، شامل لذكر اللسان وذكر القلب، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.
قال الزمخشري، فإن قلت، أين المستدرك بقوله: {ولكن لا تواعدوهن}؟.
قلت، هو محذوف لدلالة: {ستذكرونهن} عليه {علم الله أنكم ستذكرونهن} فاذكروهن {ولكن لا تواعدوهن سرا} انتهى كلامه.
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن، بل الاستدراك جاء من قبل قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء، لا على طريق الوجوب، ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير: فاذكروهن، على ما قررناه قبل قولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقي استدرك فقال: ولكن لا تخف مني. اهـ.