فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْله تَعَالَى: {إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَمَا قَرَّرَهُمْ دَاوُد عَلَى ذَلِكَ، وَلَقال: إنصَرِفَا إلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْقَضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يُقَسِّمُ أَوْقَاتَهُ وَأَحْوَالَهُ لِيَبْلُغَ كُلُّ أَحَدٍ إلَيْهِ وَيَسْتَرِيحَ هُوَ مِمَّا يَرِدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَظَنَّ دَاوُد أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يَعْنِي أَيْقَنَ.
وَالظَّنُّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعِلْمِ وَالظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمْلَةِ التَّابُوتِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
الرَّابِعُ أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ.
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الذُّنُوبِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرٌ لِلْحَقِّ عَلَى رُوحِ الْبَاطِلِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ نَظَرَ إلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ؛ لِأَنَّ طُمُوحَ الْبَصَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ الْوَسَائِطُ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَفَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُد، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ، فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا، فَفَرَّتْ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ طَارَتْ فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ، وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْتَكَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا إلَّا جَلَدْته مِائَةً وَسِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَدُّ حُرْمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ.
وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ دُونَ ذَلِكَ مِنْ النَّظْرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَوَى إنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ إذَا لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ، وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ الذَّنْبَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُهُ زَوْجَةً وَعَدَمُ الْقَنَاعَةِ بِمَا كَانَ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ عِنْدَهُ؛ وَالشَّهْوَةُ لَا آخِرَ لَهَا، وَالْأَمَلُ لَا غَايَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ فِي ظَنِّهِ، وَيَكْفِيهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ؛ وَاَلَّذِي عَتَبَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى دَاوُد تَعَلُّقُ بَالُهُ إلَى زَوْجِ غَيْرِهِ، وَمَدُّ عَيْنِهِ إلَى مَتَاعِ سِوَاهُ حَسْبَمَا نَصَّ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَا فَمَالَ إلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ عَارِفًا، وَهَذَا بَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرُّكُوعَ هَاهُنَا السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُ؛ إذْ كُلُّ رُكُوعٍ سُجُودٌ، وَكُلُّ سُجُودٍ رُكُوعٌ؛ فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمِيلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهَيْئَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَمْ لَا؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْتُكُمْ تَيَسَّرْتُمْ لِلسُّجُودِ، وَنَزَلَ فَسَجَدَ.
وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، لَا يُسْجَدُ فِيهَا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ؛ وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ، تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ؛ فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُد الَّذِي اتَّبَعَهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ وَهُوَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ؛ فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ مَعَهُ فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيبًا من القصة وتفخيمًا لها، لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. و{الخصم} جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد: الطويل:
وخصم يعدو الذخول كأنهم ** قروم غيارى كل أزهر مصعب

وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: {تسوروا} و: {دخلوا} و: {قالوا} على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة. و: {تسوروا} معناه: علوا سوره وهو جمع سورة، وهي القطعة من البناء، هذا كما تقول: تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه. و{المحراب} الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو مضوع التعبد، والعامل في: {إذ} الأولى {نبأ} وقيل: {أتاك}. والعامل في: {إذ} الثانية {تسوروا} وقيل هي بدل من {إذ} الأولى وقوله تعالى: {ففزع منهم} يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلًا، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: {لا تخف} أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولابد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما: جرباني يومًا، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهًا. وقال السدي: كان داود قد قسم دهره: يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا لعبادته، ويومًا لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه: أنه أخذ داود يومًا في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائرًا حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعًا له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظرًا جميلًا فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعًا بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانًا يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم. وقالت فرقة: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. وقال آخرون: إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق. وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله: {خصمان} تقديره: نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر: الطويل:
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ** وجاوزتما الحيين نهدًا وخثعما

نزيعان من جرم ابن زبان إنهم ** أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما

ونحوه قال العرب في مثل: محسنة فهيلي، التقدير: أنت محسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «آيبون تائبون» و: {بغى} معناه: اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر: الوافر:
ولكن الفتى حمل بن بدر ** بغى والبغي مرتعه وخيم

وقوله: {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله، وليس هذا بارتياب منه، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام: فاحكم بيننا بكتاب الله.
وقرأ جمهور الناس: {ولا تُشطِط} بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه: ولا تتعد في حكمك. وقرأ أبو رجاء وقتادة: {تَشطُط} بفتح التاء وضم الطاء، وهي قراءة الحسن والجحدري، ومعناه: ولا تبعد، يقال: شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره.
وقرأ زر بن حبيش {تُشاطط} بضم التاء وبالألف. و: {سواء الصراط} معناه: وسط الطريق ولا حبه.
وقوله: {إن هذا أخي} إعراب أخي عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول: جاءني أخوك زيد، فالتقدير: جاءني أخوك جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} [يس 31] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر: الرجز:.
يا نصر نصرًا نصرا

فإن الرواية في الثاني بالتنوين، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان، وهذه الأخوة مستعارة، إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم. و{النعجة} في هذه الآية، عبر بها عن المرأة. والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى: الكامل:
فرميت غفلة عينه عن شاته ** فأصبت حبة قلبها وطحالها

أراد عن امرأته، وفي قراءة ابن مسعود: {وتسعون نعجة أنثى}. وقرأ حفص عن عاصم: {وليَ} بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها، وهما حسنان. وقرأ الحسن والأعرج: {نِعجة} بكسر النون، والجمهور على فتحها. وقرأ الحسن: {تَسع وتَسعون} بفتح التاء فيهما وهي لغة.
وقوله: {أكفلنيها} أي ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان، المعنى: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
{وعزتي} معناه غلبني، ومنه قول العرب: من عز بز، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة: {وعزني} بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: أراد عززني، فحذف الزاي الواحدة تخفيفًا كما قال أبو زيد:
أحسن به فهن إليه شوس

قال أبو حاتم: ورويت {عزني} بتخفيف الزاي عن عاصم. وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير: {وعازني} أي غالبني.
ومعنى قوله: {في الخطاب} كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر: ما تقول؟ فأقر وألد، فقال له داود: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني: لقد ظلمك، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر.
وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له: إنما نحن مثال لك. وقال بعض الناس: إن داود قال: لقد ظلمك، قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه: وهذا ضعيف من جهات، لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضًا فقوله: {لقد ظلمك} إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال الثعلبي: كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصارًا، ومن أجله قال داود: {لقد ظلمك}.
وقوله عليه السلام: {لقد ظلمت بسؤال نعجتك} أضاف الضمير إلى المفعول، و{الخلطاء} الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق. وما في قوله: {وقليل ما هم} زائدة مؤكدة.