فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {وظن داود} معناه: شعر للأمر وعلمه. وقالت فرقة: {ظن} هنا بمعنى أيقن.
قال القاضي أبو محمد: والظن أبدًا في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون ظن بمعنى: أيقن، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهدًا يتضمن أن يقال: رأى زيد كذا وكذا فظنه. وانظر لى قوله تبارك وتعالى في كتابه: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] وإلى قول دريد بن الصمة الطويل:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهم بالفارسي المسرد

وإلى هذه الآية: {وظن داود} فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا، لم يقل {ظن} ولا استقام ذلك، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها ب {ظن} فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به، لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس: {فَتنّاه} بفتح التاء وشد النون، أي ابتليناه وامتحناه. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن: بخلاف عنه، {فتّنّاه} بشد التاء والنون على معنى المبالغة. وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر: {فتَنَاه} بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين، أي امتحناه عن أمرنا، وهي قراءة قتادة. وقرأ الضحاك: {افتتناه}.
وقوله: {وخر} أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامنًا متواضعًا، والركوع والسجود: الانخفاض والترامي نحو الأرض، وخصصتها الشرائع على هيئات معلوم. وقال قوم يقال: {خر} لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض.
وقال الحسن بن الفضل، والمعنى: خر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعًا. وقال أبو سعيد الخدري: رأيتني في النوم وأنا أكتب سورة: {ص} فلما بلغت هذه الآية سجد القلم، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ: {ص} فلما بلغت هذا سجدت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجرًا، وحط عني بها وزرًا، وارزقني بها شكرًا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت لا، قال: أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ: {وأناب} فسجد، وقال كما قالت الشجرة.
{وأناب} معناه: رجع وتاب، ويروى عن مجاهد أن داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقًا بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحًا حتى نبت العشب من دمعه، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته. وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة، قال: يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة، فأوحى الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود، وأجعله أن يهبه راضيًا بذلك، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائمًا ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعًا لله عز وجل وإقرارًا، وكان يسيح في الأرض ويصيح: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي، سبحانك، إلهي أتيت أطباء الدين يداووا علتي، فكلهم عليك دلني. وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين.
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} {غفرنا} معناه سترنا، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم. و: {الزلفى} القربة والمكانة الرفيعة. و{المآب} المرجع في الآخرة، ومن آب يؤوب إذا رجع، وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره: وقلنا له {يا داود إنا جعلناك خليفه في الأرض}. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} فيه أربع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} {الْخَصْم} يقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ لأن أصله المصدر.
قال الشاعر:
وَخَصْم غِضابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُ ** كنفضِ البَرَاذينِ العِرابِ المَخَالِيَا

النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به هاهنا مَلَكان.
وقيل: {تَسَوَّرُوا} وإن كانا اثنين حملًا على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعًا له، مثل الركب والصحب.
وتقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصمٍ.
ومعنى: {تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ} أتوه من أعلى سوره.
يقال: تسوّر الحائط تسلّقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السُّوَرُ جمع سورةٍ مثل بُسْرَةٍ وبُسَرٍ وهي كل منزلة من البناء.
ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى.
وقد مضى في مقدّمة الكتاب بيان هذا.
وقول النابغة:
ألم تَرَ أنَ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذب

يريد شرفًا ومنزلة.
فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء.
ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي.
وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: «إن جابرًا قد صنع لكم سؤرًا فَحَيَّهلًا بكم» المحراب هنا الغرفة؛ لأنهم تسوّروا عليه فيها؛ قاله يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد.
وقد مضى القول فيه في غير موضع.
{إِذْ دَخَلُواْ على داود} جاءت {إِذْ} مرتين؛ لأنهما فعلان.
وزعم الفرّاء: أن إحداهما بمعنى لما.
وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينًا لما قبلها.
قيل: إنهما كانا إنسيين؛ قاله النقاش.
وقيل: ملَكَين؛ قاله جماعة.
وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل.
وقيل: ملَكَين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته.
فمنعهما الحرس الدخول، فتسوّروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين؛ وهو قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب؛ قاله سفيان الثوري وغيره.
وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدّث نفسه إن ابتلي أن يعتصم.
فقيل له: إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حِذرك.
فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يَدرُج بين يديه.
فهمّ أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها.
قال السدّي: فوقعت في قلبه.
قال ابن عباس: وكان زوجها غازيًا في سبيل الله وهو أورِيا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدّمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدّتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلامًا أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابًا، وأشهدت عليه خمسين رجلًا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشَبَّ، وتسوّر الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.
ذكره الماوردي وغيره.
ولا يصح.
قال ابن العربي: وهو أمثل ما روي في ذلك.
قلت: ورواه مرفوعًا بمعناه الترمذيّ الحكيم في وادر الأصول عن يزيد الرقاشيّ، سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهمّ بها قطع على بني إسرائيل بَعْثًا وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدوّ قَرِّب فلانًا وسماه، قال فقرَّبه بين يدي التابوت قال وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يُستنصر به فمن قُدِّم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقُدِّم فقُتِل زوج المرأة ونزل الملَكان على داود فقصّا عليه القصّة» وقال سعيد عن قتادة: كتب إلى زوجها وذلك في حصِار عَمَّان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدّم فقتل.
وقال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة؛ لأنه تمنى يومًا على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم.
وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام، يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله.
وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
فقال: يا رب! إن الخير كله قد ذهب به آبائي؛ فأوحى الله تعالى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها؛ ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه، وابتلي إسحاق بالذبح، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك.
فقال داود عليه السلام: فابتلني بمثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة.
فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه، وأغلق بابه، وجعل يصلّي ويقرأ الزبور.
فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، فوقف بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوّة، فذهب ليأخذها فطارت ونظرُ داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل؛ قاله الكلبي.
وقال السدي: تغتسل عريانة على سطح لها؛ فرأى أجمل النساء خَلْقًا، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده إعجابًا بها.
وكان زوجها أوريا بن حنان، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا، وقدِّمه قبل التابوت، وكان من قدّم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد.
فقدّمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك.
قال الكلبي: وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود، وكان إذا ضرب ضربة وكبّر كبّر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وكبّرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره.
قال: وكان سيوف الله ثلاثة؛ كالب بن يوفنا في زمن موسى، وأوريا في زمن داود، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه: أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت؛ ففتح الله عليه، فقتل في الثالثة شهيدًا.
فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدّتها.
فهي أم سليمان بن داود.
وقيل: سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يومٍ بغير مقارفة شيء.
قال الحسن: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء؛ جزءًا لنسائه، وجزءًا للعبادة، وجزءًا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويومًا للقضاء.
فتذاكروا هل يمرّ على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبًا؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك؛ فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبَّ على قراءة الزبور، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدّم.
قال علماؤنا: وفي هذا دليل وهي:
الثانية: على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولًا بالعبادة.
وقد مضى هذا المعنى في النساء.
وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما.
وقد قال عليه السلام لعبد الله بن عمرو: «إنّ لزوجك عليك حقا» الحديث.
وقال الحسن أيضًا ومجاهد: إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلِف: والله لأعدلنّ بينكم، ولم يستثن فابتلي بهذا.
وقال أبو بكر الورّاق: كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال: هل في الأرض أحد يعمل كعملي فأرسل الله إليه جبريل؛ فقال: إن الله تعالى يقول لك: عجبتَ بعبادتك، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب، فإن أعجبت ثانية وَكَلْتُك إلى نفسك قال: يا رب كِلني إلى نفسي سنة قال: إن ذلك لكثير قال: فشهرًا قال: إن ذلك لكثير قال: فيومًا قال: إن ذلك لكثير قال: يا رب فكِلني إلى نفسي ساعة قال: فشأنك بها فوكَّل الأحراس، ولبس الصوف، ودخل المحراب، ووضع الزبور بين يديه؛ فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه، فكان من أمر المرأة ما كان.
وقال سفيان الثوري: قال داود ذات يوم: يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم فأوحى الله إليه: يا داود منك ذلك أو مني؟ وعزتي لأكِلَنَّك إلى نفسك قال: يا رب اعف عنّي قال: أكلك إلى نفسك سنة قال: لا بعزتك قال: فشهرًا قال: لا بعزتك قال: فأسبوعًا قال: لا بعزتك قال: فيومًا قال: لا بعزتك قال: فساعة قال: لا بعزتك قال: فلحظة فقال له الشيطان: وما قدر لحظة قال: كِلْني إلى نفسي لحظة فوكله الله إلى نفسه لحظة وقيل له: هي في يوم كذا في وقت كذا فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة، ووكل الأحراس حول مكانه قيل: أربعة آلاف وقيل: ثلاثين ألفًا أو ثلاثة وثلاثين ألفًا وخلا بعبادة ربه، ونشر الزبور بين يديه، فجاءت الحمامة فوقعت له، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان وأرسل الله عز وجل إليه الملَكين بعد ولادة سليمان، وضربا له المثل بالنعاج؛ فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخرّ ساجدًّا أربعين ليلة على ما يأتي.