فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {سِرًّا} فقيل: معناه نكاحًا، أي لا يقل الرجل لهذا المعتدة تزوّجيني؛ بل يعرّض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبيّ ومجاهد وعكرمة والسدّيّ وجمهور أهل العلم. وسِرًّا على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسِرين. وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ثم التزوّج بعدها. قال معناه جابر بن زيد وأبو مِجْلزَ لاحق بن حُميد، والحسن بن أبي الحسن وقتادة والنخعيّ والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهنّ زنا، واختاره الطبريّ؛ ومنه قول الأعشى:
فَلاَ تقرَبَنّ جارةً إنّ سرّها ** عليك حرامٌ فانكحن أو تَأَبَّدا

وقال الحُطَيئة:
ويحرم سِرُّ جارتهم عليهم ** ويأكل جارُهم أنفَ القِصاعِ

وقيل: السر الجِماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبًا لهن في النكاح فإنّ ذكر الجماع مع غير الزوج فُحْشٌ؛ هذا قول الشافعيّ. وقال امرؤ القيس:
ألاَ زعمت بَسْباسة اليومَ أنني ** كبِرْتُ وألاَّ يُحِسن السِرّ أمْثَالِي

وقال رؤبة:
فكُفّ عن إسرارها بعد العَسَقْ

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح، سِرًّا كان أو جهرًا، قال الأعشى:
فلن يطلبوا سِرّها للغِنَى ** ولن يُسْلِموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقِلة مالها. وقال ابن زيد: معنى قوله: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أن لا تنكحوهنّ وتكتمون ذلك؛ فإذا حلّت أظهرتموه ودخلتم بهن؛ وهذا هو معنى القول الأوّل؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأوّل؛ وإنما شَذّ في أن سمى العقد مُوَاعَدَةً، وذلك قَلِقٌ. وحكى مكيّ والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح}. اهـ.

.قال أبو حيان:

وأما تفسير {السر} هنا بالزنا فبعيد، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها. انتهى كلامه.
وإذا كان القرآن نهى عن المواعدة بالنكاح سرًا وجهرًا، فهل يصح القول بالأوجه السابقة؟! والله أعلم بمراده.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} ففيه سؤال، وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء.
وجوابه: أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض، ثم نهى عن المسارة معها دفعًا للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدًا لذلك التعريض والله أعلم. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل: {علم الله} أي بما له من صفات الكمال {أنكم ستذكرونهن} أي في العدة فأذن لكم في ذلك على ما حد لكم.
قال الحرالي: ففيه إجراء الشرعة على الحيلة الخاص بهذه الأمة انتهى.
ولما كان التقدير: فاذكروهن، استثنى منه قوله: {ولكن لا تواعدوهن} أي في ذكركم إياهن {سرًا} ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال: {إلا أن تقولوا} أي في الذكر لهن {قولًا معروفًا} لا يستحيي منه عند أحد من الناس، فآل الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر وهو التعريض؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتمامًا به لما للنفس من الداعية إليه. اهـ.
وقال البقاعي:
ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديدًا وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى وكان من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملًا على التحري ومنعًا من التجري فقال: {ولا تعزموا} أي تبتّوا أي تفعلوا فعلًا بتًا مقطوعًا به غير متردد فيه {عقدة النكاح} أي النكاح الذي يصير معقودًا للمعتدة عدة هي فيها بائن فضمن العزم البتة ولذلك أسقط على وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق بدونه فكأنه قال: ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته، وهو أبلغ مما لو قيل: ولا تعقدوا النكاح، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق الأولى. قال الحرالي: والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز {حتى يبلغ الكتاب} أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاه أو طلاق، أو ما كتب وفرض من العدة {أجله} أي أخر مدته التي ضربها للعدة.
ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب وبقي بين الطرفين أمور كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلًا غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى: {واعلموا} أي أيها الراغبون في شيء من ذلك {أن الله} وله جميع الكمال {يعلم ما في أنفسكم} كله {فاحذروه} ولا تعزموا على شر فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة.
ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثًا على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال: {واعلموا أن الله} أي كما اقتضى جلاله العقوبة اقتضى جماله العفو فهو لذلك {غفور} أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا {حليم} لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق، ويجوز أن يكون التقدير: ولا تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة النكاح في عدة من العدد؛ والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى دال على براءة الرحم، لأن الماء يكون فيه أربعين يومًا نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها؛ وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى «باثنين وأربعين يومًا» وفي رواية: «خمس وأربعين» وفي رواية: «بضع وأربعين» فإذا حمل البضع على ست وزيد ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشرًا؛ ولم تزد على ذلك مراعاة للمرأة لما قيل: إنه يقل صبر النساء بعد ذلك، واقتصر في الاستبراء على قرء وهو أقل دال على براءة الرحم لأن السيد يكون مخالطًا للأمة غالبًا فيشق الصبر، وثلثت عدة الحرة جريًا على سنة الشارع في الاستظهار بالتثليث مع زوال علة الإسراع من المخالطة، ولأن أكثر الطلاق رجعي فربما كان عن غيظ فمدت ليزول فيتروى، وكانت عدة الأمة من الطلاق بين الاستبراء وعدة الحرة لما تنازعها من حق السيد المقتضي للقصر وحق الزوج المقتضي للطول مع عدم إمكان التصنيف- والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن في لفظ العزم وجوهًا:
الأول: أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] واعلم أن العزم إنما يكون عزمًا على الفعل، فلابد في الآية من إضمار فعل، وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف على فيقال: فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية: ولا تعزموا على عقدة النكاح، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس، فعلى هذا تقدير الآية: ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكدًا عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
القول الثاني: أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب، يقال: عزمت عليكم، أي أوجبت عليكم ويقال: هذا من باب العزائم لا من باب الرخص، وقال عليه الصلاة والسلام: «عزمة من عزمات ربنا» وقال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.
إذا عرفت هذا فنقول: الإيجاب سبب الوجود ظاهرًا، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه، ولا تفرغوا منه فعلًا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
القول الثالث: قال القفال رحمه الله: إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح، لأن المعنى: لا تعزموا عليهن عقدة النكاح، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح، كما تقول: عزمت عليك أن تفعل كذا.
فأما قوله تعالى: {عُقْدَةَ النكاح} فاعلم أن أصل العقد الشد، والعهود والأنكحة تسمى عقودًا لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
وأما قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} ففي الكتاب وجهان الأول: المراد منه: المكتوب والمعنى: تبلغ العدة المفروضة آخرها، وصارت منقضية.
والثاني: أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وإنما حسن أن يعبر عن معنى: فرض، بلفظ {كُتِبَ} لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله: {حتى} هو غاية فلابد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله. اهـ.

.قال ابن عطية:

عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى {عقدة}، وقوله تعالى: {حتى يبلغ الكتاب أجله} يريد تمام العدة، و{الكتاب} هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتابًا إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال: {كتاب الله عليكم} [النساء: 24]، وكما قال: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103]، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن. اهـ.

.قال أبو حيان:

نهوا عن العزم على عقدة النكاح، وإذا كان العزم منهيًا عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة.
وانتصاب: عقدة، على المفعول به لتضمين: تعزموا، معنى ما يتعدّى بنفسه، فضمن معنى: تنووا، أو معنى: تصححوا، أو معنى: توجبوا، أو معنى: تباشروا، أو معنى: تقطعوا، أي: تبتوا. وقيل: انتصب عقدة على المصدر، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ** حتى أنال به كريمَ المأكلِ

الأصل وأظل عليه، فحذف: على، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى، قال الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح ** لأمر ما يسوّد من يسود