فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هنا كان على داود- عليه السلام- أن يمسك ميزان العدل في يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية.
ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون في طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون في طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان في الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا.
وننظر إلى داود- عليه السلام- في موقفه هذا:
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها.
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها.
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى في حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا.
إنه ملك من عند اللّه، ونبىّ من عند اللّه، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك!.
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ}. ولهذا أيضا كان تقبل اللّه سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هي هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هي عثرته؟
إنها- واللّه أعلم- ملففة في ستر من ألطاف اللّه ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان!.
وداود- عليه السلام- يمثّل السلطان في أعزّ مكان، وأقوى سلطان.
وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا الرعية أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا.
وفى قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}- إشارة إلى أن كلمة داود كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا الرعية ردّا.
يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه.
وفى المثل: من عزّ بزّ أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ داود من هذا الإنسان؟
إنه شيء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين في هذا إلى ما جاء في قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على نعجة.. والنعجة تطلق في لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته.
فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة في النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟
إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هي دلالة على أمرين:
أولا: كثرة الشيء ووفرته.
وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!.
هذه هي القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة في دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا اللّه ومننه.
أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع في حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه أوريا وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم في في دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد في مهمة حربية، وجعله في مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل في المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء اللّه، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء في القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} جملة {وهل أتاكَ نَبأ الخصم} معطوفة على جملة {إنَّا سخرنا الجبال معه} [ص: 18].
والإِنشاء هنا في معنى الخبر، فإن هذه الجملة قصت شأنًا من شأن داود مَع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها.
والاستفهام مستعمل في التعجيب أو في البحث على العلم فإن كانت القصة معلومة للنبيء صلى الله عليه وسلم كان الاستفهام مستعملًا في التعجيب وإن كان هذا أول عهده بعلمها كان الاستفهام للحث مثل {هل أتاكَ حديثُ الغاشِيَةِ} [الغاشية: 1].
والخطاب يجوز أن يكون لكل سامع والوجهان الأولان قائمان.
والنبأ: الخبر.
والتعريف في {الخَصْمِ} للعهد الذهني، أي عهد فرد غير معيّن من جنسه أي نبأ خصم معيّن هذا خبره، وهذا مثل التعريف في: ادخل السوق.
والخصام والاختصام: المجادلة والتداعي، وتقدم في قوله: {هذان خصمان} في سورة [الحج: 19].
و{الخصم} اسم يطلق على الواحد وأكثر، وأريد به هنا خصمان لقوله بعده {خَصْمَانِ}.
وتسميتهما بالخصم مجاز بعلاقة الصورة وهي من علاقة المشابهة في الذات لا في صفة من صفات الذات، وعادة علماء البيان أن يمثلوها بقول القائل إذَا رأى صورة أسد: هذا أَسد.
وضمير الجمع مراد به المثنى، والمعنى: إذ تسورا المحراب، والعرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة لأن في صيغة التثنية ثقلًا لنْدرة استعمالها، قال تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] أي قلباكما.
و{إذْ تَسَوَّرُوا} إذا جعلت {إذ} ظرفًا للزمن الماضي فهو متعلق بمحذوف دل عليه {الخَصم} والتقدير: تحاكم الخصم حين تَسوروا المحراب لداود.
ولا يستقيم تعلقه بفعل {أتاكَ} ولا ب {نَبَأ} لأن النبأ الموقت بزمننِ تسوّر الخصم محراب داود لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولك أن تجعل {إذ} اسمًا للزمن الماضي مجردًا عن الظرفية وتجعله بدل اشتمال من {الخصم} لما في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} [مريم: 16]، فالخصم مشتمل على زمن تسورهم المحراب، وخروج {إذ} عن الظرفية لا يختص بوقوعها مفعولًا به بل المراد أنه يتصرف فيكون ظرفًا وغير ظرف.
والتسور: تفعل مشتق من السور، وهو الجدار المحيط بمكان أو بلدٍ يقال: تَسوّر، إذا اعتلى على السور، ونظيره قولهم: تسنم جملَهُ، إذا علا سَنامه، وتَذَرأه إذا علا ذروته، وقريب منه في الاشتقاق قولهم: صَاهى، إذا ركب صهوة فرسه.
والمعنى: أن بيت عبادة داود عليه السلام كان محوطًا بسُور لئلا يدخله أحد إلا بإذن من حارس السور.
و{المحراب} البيت المتّخذ للعبادة، وتقدم عند قوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب} في سورة [سبأ: 13].
و{إذْ دَخلُوا} بدل من {إذْ تَسَوَّرُوا} لأنهم تسوروا المحراب للدخول على داود.
والفزع: الذُّعر، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة، وتقدم في قوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} في سورة [الأنبياء: 103].
قال ابن العربي في كتاب أحكام القرآن: إن قيل: لِم فَزع داود وقد قويت نفسه بالنبوءة؟ وأجاب بأن الله لم يضمن له العصمة ولا الأمن من القتل وكان يخاف منهما وقد قال الله لموسى {لا تَخَف} وقبلَه قيل للوط.
فهم مُؤمَّنون من خوف ما لم يكن قيل لهم إنكم منه معصومون. اهـ.
وحاصل جوابه: أن ذلك قد عرض للأنبياء إذ لم يكونوا معصومين من إصابة الضرّ حتى يؤمّن الله أحدَهم فيطمئن والله لم يؤمن داود فلذلك فزع.
وهو جواب غير تام الإِقناع لأن السؤال تضمن قول السائل وقد قويت نفسه بالنبوءة فجعل السائل انتفاءَ تطرّق الخوف إلى نفوس الأنبياء أصلًا بنى عليه سؤاله، وهو أجاب بانتفاء التأمين فلم يطابق سؤال السائل.
وكان الوجه أن ينفي في الجواب سلامة الأنبياء من تطرق الخوف إليهم.
والأحسن أن نجيب:
أولًا: بأن الخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادِىءَ ذي بَدءٍ ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه، فأمَّا إذا أمَّن الله نبيئًا فذلك مقام آخر كقوله لموسى {لا تخف} وقوله للنبيء صلى الله عليه وسلم {فسيكفيكهم اللَّه} [البقرة: 137].
وثانيًا: بأن الذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف.
والفَزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإِحساس بشيء شأنُه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعًا، أي مسرعًا مبادرًا للصلاة توقّعًا أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب، ولذلك قال القرآن {فَفَزِعَ منهم} ولم يقل: خاف.
وقال في إبراهيم عليه السلام {فأوجس منهم خِيفَة} [الذاريات: 28] أي توجُّسًا ما لم يبلغ حدّ الخوف.
وأما قول الخصم لداود {لاَ تَخَف} فهو قول يقوله القادِم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.
وثالثًا: أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سببًا في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته.
وقد جاء في حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة فقال: «ليَت رجلًا صالحًا من أصحابي يَحرسنِي الليلةَ» إذ سمعنا صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال: سَعد بن أبي وقاص جئتُ لأحرسك. قالت: فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه.
وروى الترمذي: أن العباس كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: {واللَّه يعصمك من الناس} [المائدة: 67] فتركت الحراسة.
ومعنى {بَغَى بعضنا} اعتدى وظلم.
والبغي: الظلم، والجملة صفة ل {خَصْمَانِ} والرابط ضمير {بعضنا} وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعيًا لمعنى {خصمان}.
ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإِيجاز بالإِجمال ثم يعقبه التفصيل، ولإِظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما: {لقد ظلمكَ بسؤاللِ نعجتك إلى نعاجه}.
والفاء في {فاحْكم بيننا بالحق} تفريع على قوله: {خصمان} لأن داود عليه السلام لمّا كان مَلِكًا وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرعًا على ذلك.
والباء في {بالحق} للملابسة، وهي متعلقة ب {احكم} وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبيء صلى الله عليه وسلم الذي افتدى ابنَه ممن زنى بامرأته: فاحكم بيننا بكتاب اللَّه.
والنهي في {لا تشطط} مستعمل في التذكير والإِرشاد.
و{تشطط} مضارع أشط، يقال: أشط عليه، إذا جَار عليه، وهو مشتق من الشطط وهو مجاوزة الحد والقدر المتعارف.
ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي، وهو من قبيل: اتَّق الله في أمري.
وصدوره قبل الحكم أقرب إلى معنى التذكير وأبعد عن الجفاء، فإن وقع بعد الحكم كان أقرب إلى الجفاء كالذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم في قسمة قسمها اعْدِل، فقال له الرسول: «ويلك فمن يعدل إن لم أعدل».
وقد قال علماؤنا في قول الخصم للقاضي: {اتق الله في أمري} إنه لا يعد جفاء للقاضي ولا يجوز للقاضي أن يعاقبه عليه كما يعاقب من أساء إليه.
وأفتى مالك بسجن فتى، فقال أبوه لمالك: اتق الله يا مالك، فوالله ما خُلقت النار باطلًا، فقال مالك: من الباطل ما فعله ابنك.
فهذا فيه زيادة بالتعريض بقوله فوالله ما خلقت النار باطلًا.
وقولهما: {واهدنا إلى سواء الصراطِ} يصرف عن إرادة الجفاء من قولهما: {ولا تُشْطِط} لأنهما عرفا أنه لا يقول إلا حقًا وأنهما تطلبا منه الهُدى.
والهدى: هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب.
و{سواء الصراط} مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل لأن الصراط الطريق الواسع، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شُعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالًا إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب.