فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعرب تطلق النوص على التأخر. والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم، ومنه قول امرئ القيس:
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص ** فتقصر عنها خطوة وتبوص

وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافًا لمن قال: إنها تعمل عمل إن، ولمن قال: إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها.
وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة، أن التاء ليست موصوله بحين، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء.
أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها، وكذلك قراءة كسر النون من حين، فهي شاذة لا تجوز، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل.
وتعسف له الزمخشري وجهًا لا يخفى سقوطه، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أصل النداء: رفع الصوت، والعرب تقول: فلان أندى صوتًا من فلان، أي أرفع، ومنه قوله:
فقلت ادعى وأدعو إن أندا ** لصوت أن ينادي داعيان

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص. ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 8485] الآية. وقوله تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يا ويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 1215] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه تعالى: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47]. وقوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 711] والوزر: الملجأ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
والناس إلب علينا فيك ليس لنا ** إلا الرماح وأطراف القنا وزر

وكقوله تعالى: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} [الكهف: 58] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس:
وقد أخالس رب البيت غفلته ** وقد يحاذر مني ثم مائيل

أي ثم ما ينجو.
قوله تعالى: {وعجبوا أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسورل منذر منهم، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من عجبهم المذكور، ذكره في غير هذا الموضع، وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه وروده عليهم في آيات أخر، فقال في عجبهم المذكور {ق والقرآن المجيد بَلْ عجبوا أَن جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ق: 12].
وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} [يونس: 12] وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود، فقال عن نوح مخاطبًا لقومه {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 63].
وقال عن هود مخاطبًا لعاد: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] الآية، وبين أن سبب عجبهم من كون منذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم احدًا من جنسهم. وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدًا لأرسل إليهم ملكًا لأنه ليس بشرًا مثلهم وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق.
والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 9495] وقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] وقوله تعالى: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 3343]. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7]. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر فقالوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 2324] الآية. وقوله تعالى: {قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: 10] الآية. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 89] وقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله قَالُواْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 1314] وقوله تعالى: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [المؤمنون: 24] وقوله تعالى: {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} [الحجر: 68] وقوله تعالى: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7] وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًايَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 2122] الآية. وقوله تعالى عن فرعون مع موسى: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53].
وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه.
كقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109] وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 78] وقوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] أي بالرسالة والوحي ولو كان بشرًا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ}.
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42].
قوله تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة، أنكروا أن الله خص نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليهوحده، ولم ينزله على أحد آخر منهم، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء في آيات أخر، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي، كقوله تعالى عنهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعنون بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة، وغروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه.
وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] لأن الهمزة في قوله: أهم يقسمون، للإنكار المشتمل على معنى النفي، وكقوله تعالى: {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124].
وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُون} [الأنعام: 124] وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله: {بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا} [ص: 810] الآية. لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء، ويخص بها من يشاء، إلا من عنده خزائن الرحمة. وله ملك السموات والأرض.
وقوله تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى عنهم: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25] وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26].
قوله تعالى: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا} الآية.
قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 17].
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [الحج: 42] الآية وفي غير ذلك من المواضع.
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 57]. وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] الآية وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] الآية. وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47] الآية.
وقد قدمنا أن القط، النصيب من الشيء، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به.
وأن أصل القط كتاب الجائزة لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان، وجمعه قطوط، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان حين لقيته ** بغبطته يعطي القطوط ويأفق

وقوله: ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط.
قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ} إلى قوله: {أَوَّابٌ}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له، في سورة الأنبياء، في الكلام على قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ داود الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] الآية.
قوله تعالى: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} الآية.
قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية، من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه، في الكلام على قوله تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم، فقيل له إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه، فخذ حذرك فقيل له: هذا اليوم الذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور، ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأدخل الزبور في حجره، وأقعد منصفًا على الباب، وقال لا تأذن لأحد عليّ اليوم.
فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير، فيه من كل لون، فجعل يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه، فطار فوقه على كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها أجمع بشعرها، وكان زوجها غازيًا في سبيل الله، فكتب داود عليه السلام إلى رأس الغزاة. انظر فاجعله في حملة التابوت، أما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا. فقدمه في حملة التابوت فقتل.
فلما انقضت عدتها خطبها داود عليه السلام، فاشترطت عليه أن ولدت غلامًا أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسًا من بني إسرائيل، وكتبت عليه بذلك كتابًا، فأشعر بنفسه أنه كتب حتى ولدت سليمان عليه الصلاة والسلام وشب، فتسوّر عليه الملكان المحراب، فكان شأنهما ما قص الله تعالى في كتابه، وخر داود عليه السلام ساجدًّا، فغفر الله له، وتاب عليه.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أصابه القدر إلا من عجب عجب بنفسه. وذلك أنه قال يا رب ما من ساعة من ليل ونهار إلا وعابد من بني إسرائيل يعبدك، يصلي لك، أو يسبح، أو يكبر، وذكر أشياء، فكره الله ذلك فقال يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي، فلولا عوني ما قويت عليه؛ وجلالي لآكِلُكَ إلى نفسك يومًا. قال: يا رب فاخبرني به، فأصابته الفتنة ذلك اليوم.