فصل: قال صاحب التفسير الواضح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتقدم قوله: {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} في سورة [الأنبياء: 81].
واللام في {له} للعلة، أي لأجله، أي ذلك التسخير كرامَة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدّرًا على نحو رغبته.
والأمر في قوله: {بِأمْرِهِ} مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه، أو يرغب ذلك في نفسه، فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيّات.
والرُّخاء: اللينة التي لا زعزعة في هبوبها.
وانتصب {رُخَاءً} على الحال من ضمير {تَجْرِي} أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفياتُ هبوبِها، وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة، وقد قال تعالى في سورة [الأنبياء: 81]: {ولسليمان الريح عاصفة} ومعناه: سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف، فمعنى فسخَّرْنَا لهُ جعلناها له رخاء.
فانتصب {عاصفة} في آية سورة الأنبياء على الحال من {الريح} وهي حال منتقلة.
ولما أعقبه بقوله: {تجري بأمره} علم أن عصفها يصير إلى لَيْن بأمر سليمان، أي دعائه، أو بعزمه، أو رغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال، فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين.
و{أصَابَ} معناه قصد، وهو مشتق من الصَّوْب، أي الجهة، أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير إليها.
حكَى الأصمعي عن العرب: أَصَابَ الصواب فأخطأ الجواب أي أراد الصواب فلم يُصب.
وقيل: هذا استعمال لها في لغة حِمير، وقيل في لغة هَجَر.
و{الشياطين} جمع شيطان، وحقيقته الجنّي، ويستعمل مجازًا للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله.
ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوًا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112]، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيرًا خارقًا للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء، وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب الأمم فكانوا يأتون طوعًا للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبأ.
فيجوز أن يكون {الشياطين} مستعملًا في حقيقته ومجازه.
و{كُلَّ بناءٍ} بدل من {الشَيَاطِينَ} بدل بعض من كل، أي كل بنّاء وغوّاص منهم، أي من الشياطين.
و{كُلَّ} هنا مستعملة في معنى الكثير، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح، قال تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقال: {ثم كلي من كل الثمرات} [النحل: 69].
وقال النابغة:
بها كلُّ ذَيَّال وخنساءَ ترعوي

وتقدم عند قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة [الأنعام: 25].
والبنَّاء: الذي يَبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نَجَّار وقصَّار وحدَّاد.
والغواص: الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ، وهو أيضًا مما صِيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة، قال النابغة:
أو درّة صدفية غوَّاصها ** بَهج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ

قال تعالى: {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملًا دون ذلك} [الأنبياء: 82].
وقد بلغت الصناعة في مُلك سليمان مبلغًا من الإِتقان والجودة والجلال، وناهيك ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سُمي في الإِسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من مواد إقامته من الممالك المجاورة له، وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبَأ.
و{ءَاخَرِينَ} عطف على {كُلَّ بناءٍ وغوَّاصٍ} فهو من جملة بدل البعض.
وجمع آخر بمعنى مغاير، فيجوز أن تكون المغايرة في النوع من غير نوع الجن، ويجوز أن تكون المغايرة في الصفة، أي غير بنائين وغوّاصين.
وقد كان يجلب من الممالك المجاورة له والداخلة تحت ظل سلطانه ما يحتاج إليه في بناء القصور والحصون والمدن وكانت مملكته عظيمة وكل الملوك يخشون بأسه ويصانعونه.
والمقرَّن: اسم مفعول من قرنه مبالغة في قرنه أي جعله قرينًا لغيره لا ينفك أحدهما عن الآخر.
و{الأصفاد} جمع صَفَد بفتحتين وهو القيد.
يقال: صفده، إذا قيّده.
وهذا صنف ممن عبر عنهم بالشياطين شديد الشكيمة يخشى تفلته ويرام أن يستمر يعمل أعمالًا لا يجيدها غيرُه فيصفد في القيود ليعمل تحت حراسة الحراس.
وقد كان أهل الرأي من الملوك يَجعلون أصحاب الخصائص في الصناعات محبوسين حيث لا يتصلون بأحد لكيلا يستهويهم جواسيس ملوك آخرين يستصنعونهم ليتخصص أهل تلك المملكة بخصائص تلك الصناعات فلا تشاركها فيها مملكة أخرى وبخاصة في صنع آلات الحرب من سيوف ونبال وقِسِيّ ودرق ومَجَانَ وخُوذ وبيضات ودروع، فيجوز أن يكون معنى: {مُقَرَّنينَ في الأصفَادِ} حقيقة، ويجوز أن يكون تمثيلًا لمنع الشياطين من التفلت.
وقد كان ملك سليمان مشتهرًا بصنع الدروع السابغات المتقنة.
يقال: دروع سليمانية.
قال النابغة:
وكل صَموت نثلة تُبَّعِيّة ** ونَسْج سُلَيم كلَّ قمصاء ذائل

أراد نسج سليمان، أي نسج صنّاعه.
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} والإِشارة إلى التسخير المستفاد من {فسخرنا له الريح} [ص: 36] إلى قوله: {والشياطين} [ص: 37] أي هذا التسخير عطاؤنا.
والإِضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل: هذا عطاء عظيم أعطيناكه.
والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل الخلق بمعنى المخلوق.
وامنن أمر مستعمل في الإِذن والإِباحة، وهو مشتق من المنّ المكنّى به عن الإِنعام، أي فأنعم على مَن شئت بالإِطلاق، أو أمسك في الخدمة من شئت.
فالمنّ: كناية عن الإِطلاق بلازم اللام، كقوله تعالى: {فإما منًا بعدُ وإما فداء} [محمد: 4].
وجملتا {فامنن أو أمْسِك} معترضتان بين قوله: {عَطَاؤُنَا} وقوله: {بِغَيرِ حسَابٍ} وهو تفريع مقدّم من تأخير.
والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة، ونظيره قوله تعالى من بعد: {هذا فليذوقوه حميم وغساق} [ص: 57] وقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظنِّي غيرَه ** مني بمنزلة المُحَب المكْرَم

وقول بشار:
كقائلة إن الحمار فنحِّه ** عن القَتِّ أهلُ السمسم المتهذب

مجازًا وكناية في التحديد والتقدير، أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتَّر فيه، أي عطاؤنا واسعًا وافيًا لا تضييق فيه عليك.
ويجوز أن يكون {بغيرِ حسابٍ} حالًا من ضمير أمنن {أو أمسك}.
ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنّى بها عن المُؤاخذة.
والمعنى: أُمنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن منَنْتَ عليه بالإِطلاق إن كان مفسدًا، ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحًا.
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} تقدم نظيره آنفًا في قصة داود وبيان نكتة التأكيد بحرف {إن}. اهـ.

.قال صاحب التفسير الواضح:

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)}.

.المفردات:

{الصَّافِناتُ} القائمات، أو الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى رجليه ويقف على مقدم حافرها الْجِيادُ: جمع جواد، وهو الذي يجود في سيره، أي: يسرع مع الخفة تَوارَتْ: اختفت وغابت بِالْحِجابِ: بالحاجز وقيل: بالليل بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي: بسيقانها وأعناقها رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها.
أَصابَ: أراد الْأَصْفادِ: جمع صفد، وهو القيد.

.المعنى:

ذكر بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن سليمان عرض عليه خيل جياد في وقت العصر فألهاه ذلك عن صلاة العصر فغضب، وطلب من اللّه أن يرد عليه الشمس بعد غروبها ليصلى العصر فردت إليه، ثم غضب على الخيل التي كانت سببا في فوات الصلاة فقطع أعناقها وسوقها، والضمير في قوله: {حتى توارت بالحجاب} للشمس، ثم قالوا في قوله تعالى: {أحببت حب الخير عن ذكر ربي} إنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه، وهو الصلاة.
وهذا تأويل فاسد، يدل على فساده بداهة أسلوب القرآن، ومكان القصة هنا، وسياق الآيات.
إن هذه القصص إنما ذكرها اللّه تعالى بعد قول المشركين: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقد بلغوا مبلغا من السفاهة عظيما، حتى قال اللّه للنبي: اصبر على ما يقولون. واذكر عبدنا داود، ثم ذكر بعد ذلك قصة سليمان وهذا الوضع والسياق يفيد أن القصص سيقت لبيان جلائل الأعمال، وفضائل الخلال التي قام بها هؤلاء الأنبياء وأصحابهم، وعلى هذا فداود وسليمان ليس من الحق أن نفهم فيهما أنهما أتيا أعمالا تتنافى مع مركز النبوة وشرف الرسالة، وخاصة بعد قول اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم: اصبر واذكر داود وسليمان، أي: تأس بهؤلاء، وعلى هذا فيمكن أن نلخص ما يمكن فهمه من هذه الآيات بما يأتى: أن اللّه وهب لداود سليمان وكان نبيا من المرسلين، وهو نعم العبد الصالح، إنه أواب ومطيع، واذكر وقت أن عرض عليه بالعشي الخيل المطهمة، والصافنات الجياد، ويمكن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، لأنه ملك له دولة وله سلطان، وله جيش منظم، وخيل معدة، وأمر بإحضارها وإمرارها عليه لينظرها ويبدي رأيه فيها، وهو لا يحب الخيل لذاتها وإنما يحبها لأمر اللّه، وتقوية دينه وتثبيت دعائمه.
ثم لما سارت الخيل أمامه وتم عرضها حتى توارت عنه، وغابت عن بصره أمر قواده أن يردوها إليه فلما عادت طفق يمسح مسحا بسيقانها وأعناقها، وإنما فعل ذلك تشريفا لها وتكريما، وليرى رأيه في الخيل لأنه على علم بها وبعيوبها.
ولقد فتنا سليمان، فتنة اللّه أعلم بها، وألقينا على كرسيه جسدا، ثم أناب، وهذه الفتنة تكلم فيها القصاص والإسرائيليون كثيرا، والذي نختاره ما ذكره أئمة التفسير المحققون من أمثال أبى السعود والفخر والآلوسي وغيرهم من أفاضل العلماء، وكان مرجع آرائهم إلى القول بعصمة الأنبياء ومنع تمثل الشيطان بهم، وغلق باب زعزعة الناس في معتقداتهم، وأظهر ما قيل في فتنة سليمان- عليه السلام- ما روى مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: أنه قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه تعالى، ولم يقل إن شاء اللّه فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون، هذا الحديث ثابت في الصحيحين البخاري ومسلم، وروى بعدة طرق، تلك هي فتنة سليمان كما وردت في الحديث وأما إلقاؤه على كرسيه جسدا فأنه حين الفتنة كان يجلس على كرسي الحكم جسدا لا روح فيه لأنه لما لم يقل: إن شاء اللّه كأنه ارتكب ذنبا فصار بسببه جسدا، ثم تاب وأناب.
وأما قول سليمان: رب اغفر لي فلا يصح أن يكون هذا دليلا على صدور الزلة منه كما قال القصاص مستندين إلى أن طلب المغفرة يدل على سبق الذنب.
فالإنسان ولو كان نبيا لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ألم تر إلى قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنى لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة».
وانظر إلى سليمان، وقد طلب من اللّه المغفرة قبل طلبه الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، هذا دليل على طلب المغفرة، والرجوع إلى اللّه سبيل وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا} [نوح 10- 12].
ولقد طلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له ربه الريح حالة كونها جارية بأمره، لينة لا تعب معها، وإن كانت في الأصل عاصفة قوية فهي رخاء لينة تجرى بأمره حيث أراد.
وسخر الشياطين له تعمل تحت أمره من كل بناء وغواص يغوص في البحار لاستخراج الدر منها والأصداف، وآخرين منهم مقرنين في الأصفاد والقيود خاضعين لأمره، عاملين تحت إذنه.
هذا- والإشارة إلى ما تقدم من إعطاء الملك الواسع والتسلط على الرياح والجن والشياطين- عطاؤنا الخاص لك فأعط من تشاء وامنع من تشاء غير محاسب على ذلك يوم القيامة.
وإن لسليمان عند ربه لزلفى وقربة وكرامة وحسنى، وله حسن مآب ومرجع في الجنة، وإن ختام القصة بهذا لدليل على أن كل ما قيل عن سليمان مما هو ثابت في كتب أهل الكتاب أو عند قصاص الأخبار من المسلمين خرافة وأكاذيب لا تليق بمركز النبوة واللّه أعلم. اهـ.