فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} التفسير: عن ابن عباس أن {ص} بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير: بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل: صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله.
وقيل: صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل: صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد. وقيل: هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ {ص} بالكسر، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوارمه وانته عن نواهيه. والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة، وجواب القسم محذوف كأنه قيل: إنه المعجز وإن إلهكم لواحد. ويجوز إن كان {ص} اسم السورة أن يراد هذه ص، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى بل ترك كلام والأخذ في كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقًا في تبليغ الرسالة، أو كون القرآن، أو هذه السورة معجزًا، والحكم المذكور بد بل هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار بقوله: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات} أي رفعوا اصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن: فنادوا بالتوبة كقوله: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا} ولهذا قال: {ولات حين مناص} أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل: التاء في لات زائدة مثلها في ربت وثمت وهي المشبهة بليس، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية: ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلًا لهم. وقال الأخفش: إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل: اصل لات ليس قلبت الياء ألفًا والسين تاء. وقيل: التاء قد تلحق بحين كقوله:
العاطفون تحين ما من عاطف ** والمطعمون زمان ما من مطعم

وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلًا بحين. وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه. أما الوقف على {لات} فعند الكوفيين بالهاء قياسًا على الأسماء، وعند البصريين بالتاء قياسًا على الأفعال. والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات. قال ابن عباس: لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله {ولات حين مناص}. ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} أي من جنس البشر.
ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلًا {وقال الكافرون هذا ساحر} في إظهار خوارق العادات {كذاب} على الله. وإنما قيل في سورة ق {فقال الكافرون} [الآية: 2] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظًا ومعنى: وأما هاهنا فلم يتصل إلا معنى {أجعل الآلهة} أي صيرها وحكم عليها بالوحدة {إن هذا لشيء عجاب} بليغ في العجب. يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء: امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال: ماذا يسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل: والله لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات. يعني من أول السورة إلى قوله: {كذبت قبلهم} {وانطلق الملأ منهم} أي نهضوا من ذلك المجلس و{أن} مفسرة أي {امشوا} من غير أن يتلفظوا به {واصبروا على} عبادة {آلهتكم}.
قال النحويون: الانطلاق هاهنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لابد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل: وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا. وقيل: انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما المراد المضيّ على الأمر. وقيل: امشوا واتركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل. وفي تهذيب اللغة عن الأزهري: مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة {إن هذا} الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم {لشيء يراد} أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر اريد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم. وقيل: إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه. وقيل: إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال: إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
{ما سمعنا بهذا} أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم {في الملة الآخرة} فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى مثلثة غير موحدة. قال جار الله: يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائنًا في الملة الآخرة فيكون الظرف حالًا من هذا لا متعلقًا ب {سمعنا} والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله.
{إن هذا إلا اختلاق} كذب اختلقه من عنده. ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين {أأنزل عليه الذكر من بيننا} وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر {أألقي الذكر عليه من بيننا} [القمر: 25] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفًا مكتوبة وألواحًا مسطورة. وقدم الظرف هاهنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله: {بل هم في شك من ذكري} اي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم، فالقاطع لا يساوي المشكوك. وقيل: أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي. ثم قال: {بل لما يذوقوا عذاب} أي لو ذاقوا لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات. وقيل: أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سببًا لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب. ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده. ثم خصص بعد التعميم قائلًا {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما} ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى. ثم تهكم بهم بقوله: {فليرتقوا} اي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود.
وقيل: أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها. قال بعض حكماء الإسلام: في الأسباب إشارة إلى أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي. ثم حقر أمرهم بقوله: {جند مّا} وهو خبر مبتدأ محذوف وما مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود. ثم خصص الوصف بقوله: {من الأحزاب} أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم. قال قتادة {هنالك} إشارة إلى يوم بدر. وقيل: يوم الخندق. وقيل: فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات.
وقال أهل البيان: هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك. ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مرارًا. والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب بها عنده. وقال المبرد: بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل: هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل: اراد كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل: أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجود كلها. وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تتعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه.
قال أبو البقاء: قوله: {أولئك الأحزاب} مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون خبرًا والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط، قلت: ويحتمل أن يكون {الأحزاب} صفة {أولئك} و{أولئك} بدلًا من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلًا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله: {إن كل إلا كذب الرسل} فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدًا منهم فقد كذبوا جميعهم {فحق} أي ثبت أو وجب لذلك عقابى إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله: {وما ينظر هؤلاء} المذكورون. وقيل: أهل مكة: {إلا صيحة واحدة} وهي النفخة الأولى {ما لها من} توقف مقدار {فواق} وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب. عن النبي صلى الله عليه وسلم «العيادة قدر فواق الناقة» ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل: الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم: أولاها في الإلهيات وهو قولهم {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} والثانية في النبوات وهي قولهم {أأنزل عليه الذكر من بيننا} والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم {ربنا عجل لنا قطنًا} وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطة إذا قطعه. والقط أيضًا صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود، أو من اللذات العاجلة، أو من صحيفة الأعمال، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون.
قال جار الله: أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم.
{واذكر} أخاك {داود} كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهمم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب. وقال غيره: اصبر على اذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام: الأول: تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني: شرح الواقعة التي وقعت له. والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف: أحدها ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر اصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافًا إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مرارًا. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضًا تشريفًا له. وثالثها قوله: {ذا الأيد} ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفًا اكتفاء بالكسر فيكون جميع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله: {إنه أوّاب} أي رجاع الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه وقوله: {يسبحن} حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما روى عن أم هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. قال ابن عباس: وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله: {والطير محشورة} أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية. قال ابن عباس: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في الأنبياء وفي سبأ. قال أهل البيان: قوله: {محشورة} في مقابلة قوله: {يسبحن} ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئًا بعد شيء وحالًا بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى.
سابعها قوله: {كلّ له أوّاب} أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل: الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله: {وشددنا ملكه} أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس، وزاد بعضهم فقال أربعون الفًا. وقيل: نصرناه بالهيبة، وسببه أن غلامًا ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود: هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا: أتقتل رجلًا بلطمة؟ فقال داود: هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل: صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا: إنه يقضي بالوحي من السماء. تاسعها قوله: {وآتيناه الحكمة} وقد مر معناها مرارًا وأنها منحصرة في قسمين: الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملًا مكملًا فهمًا مفهمًا.
قال جار الله: الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلك بغيره. قلت: ومن ذلك أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل كما تذكره في الوقوف. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: البينة على المدّعي واليمين على من أنكر. فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات. يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلًا غصب من آخر لؤلؤه وجعلها في جوف عصًا له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطب. وقيل: هو قوله: أما بعد وهو أوّل من تكلم به.
وقيل: هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلًا {وهل أتاك} يا محمد {نبأ الخصم} أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة آقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلًا منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة.
القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود- وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه- فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله: {إذ دخلوا عليه} إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدًا. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر.
{ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان} أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلًا نظرًا إلى أصله، وثناه ثانيًا بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع المائر في قوله: {إذ تسوّروا} {إذ دخلوا} {ففزع منهم} {قالوا لا تخف} بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق {بغى بعضنا على بعض} أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها {فاحكم بيننا بالحق} أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية {ولا تشطط} وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة {واهدنا إلى سواء الصراط} أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين اخبروا عن وقوع الخصومة مجملًا شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيرًا إلى الآخر {إن هذا} وقوله: {أخي} أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر {له تسع وتسعون نعجة} وهي أنثى من الضأن {ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها} أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي {وعزني في الخطاب} أي غلبني في المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه اشدّ {قال} داود {لقد ظلمك بسؤال نعجتك} أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك.