فصل: قال السبكي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل عَرْقَبَها ليذبحها فَحَبَسَها بالعرقبة عن النفار، وقيل وَضَعَ عليها الكيَّ فَسَبَّلَها، وإيش ما كان فكلُّ ذلك كان جائزًا في شرعه.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} اختلف الناسُ في هذه الفتنة؛ ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال: «لأَطوفَنَّ على هؤلاء فيولد من كل واحدةٍ منهن غلام يقاتل في سبيل الله» ولم يَقُلْ إن شاء الله، ولم تَحْمِلْ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشق مولود، فألقته على كرسيِّه، فاستغفر ربه من تَرْك الاستنشاء، وكان ذلك ترك ما هو الأَوْلَى.
وقيل كان له ابن، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه، فَهَمُّوا بقَتْلِه، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطينن، فمات الولد، وألفته الريح على كرسيه ميتًا. فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء، وكان الأوْلَى به التوكل وتَرْكَ الاستعانة بالريح.
وقيل في التفاسير: إنه تزوج بامرأة كانت زوجة مَلِكٍ قهره سليمان، وسَبَاها، فقالت له: إن أَذِنْتُ لي أَنْ اتَّخِذَ تمثالًا على صورةٍ لأبي لأتسلَّى بنظري إليه؟ فأَذِنَ لها، فكانت تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يومًا، وكانت تعبده سِرًّا، فعوقب عليه.
وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت مِنْ أَحَبِّ نسائه إليه، وكان إذا أراد دخول الخللاء نَزَعَ خاتمه ودَفَعَه إليها، وهي على باب الخلاء، فإذا خَرَجَ استردَّه. وجاء يومًا شيطانٌ يُقَال له صخر على صورة سليمان وقال لامرأته: ادفعي إليَّ الخاتم فدفعته، ولبسه، وقعد على كرسيه، يُمَشِّي أمورَه- إلا التصرفَ في نسائه- فقد منعه اللَّهُ عن ذلك. فلمَّا خرج سليمانُ طَالَبَ المرأة بالخاتم، فقالت: الساعةَ دَفَعْتُه إليك. فظَنَّ أنه فُتِنَ، وكان إذا أخبر الناسَ أنه سليمان لا يُصَدِّقُونه، فخرج هاربًا إلى ساحل البحر، وأصابته شدائد، وحمل سَمَكَ الصيادين بأجرةٍ حتى يجدَ قُواتًا.
ولما اتهم بنو إسرائيل الشيطانَ واستنكروا حُكْمَه نشروا التوراة بين يديه ففرَّ ورمى بالخاتم في البحر، وطار في الهواء. ولمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَدَّ مُلْكَ سليمان إليه، ابتلعت سمكةٌ خاتمه، ووقعت في حبال الصيادين، ودفعوها إلى سليمان في أجرته، فلمَّا شقَّ بَطْنَهَا ورأى خاتَمه لبسه، وسَجَدَ له الملاحون، وعاد إلى سرير مُلْكَه.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} أي مُلْكًا لا يسلبه أحدٌ مني هذا كما سُلِبَ مني في هذه المرة.
وقيل أراد انفراده به ليكونَ معجزةً له على قومه.
وقيل أراد أنه لا ينبغي لأحدٍ من بعدي أن يسأل المُلْكَ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله في اختياره له.
ويقال لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغي من بعدي لأحدٍ من الملوك.
وإنما سأل المُلْكَ لسياسة الناس، وإنصافِ بعضهم من بعض، والقيام بحقِّ الله، ولم يسأله لأَجْلِ مَيْلِه إلى الدنيا، وهو كقول يوسف: {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
ويقال لم يطلب المُلْكَ الظاهرَ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ- على الحقيقة- مَنْ يَمْلِكَ نَفْسَه، ومَنْ مَلََكَ نَفْسَه لم يَتَّبعْ هواه.
ويقال أراد به كمالَ حالهِ في شهود ربِّه حتى لا يَرَى معه غيرَه.
ويقال سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار.
ويقال علم أن سِرَّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ألا يلاحِظَ الدنيا ولا ملكَها فقال: {لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مِّن بَعْدِى} [ص: 35] لا لأنه بَخِلَ به على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} شكَرَ اللَّهُ سَعْيَه، وسَخَّرَ له الريحَ بَدَلًا من الأفراس؛ فلا يحتاج في إمساكها إلى العَلَفِ والمُؤَنِ.
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} كما سخَّرنا له الشياطين.
ثم قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا} أي فأَعْطِ أَو أَمْسِكْ، واحفظْ وليس عليك حساب.
والمشيُ في الهواء للأَولياء، وقَطْعُ المسافاتِ البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعًا في الأمه- وإنْ لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين. وإظهاره على خَدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه يَدُلُّ على أن مقامه صلى الله عليه وسلم أشرف. اهـ.

.قال السبكي:

قَوْله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} إلَى قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَعَانِي، وَالنَّحْوِ، وَالْبَيَانِ، وَالْبَدِيعِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَالْقِرَاءَاتِ، وَاللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَنَذْكُرُهَا عَلَى تَرْتِيبٍ؛ وَنُنَبِّهُ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَوَّلُ: قَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ {أَنَابَ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً مُفَسِّرًا لِمَا قَالَهُ حِينَ إنَابَتِهِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ لِأَنَّ عَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ تَجُوزُ لِأَنَّ الْإِنَابَةَ غَيْرُ الْقَوْلِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِنَابَةَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ غَيْرُ الْأَقْوَالِ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَالُ الِاتِّصَالِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَالضَّمِيرُ فِي {قَالَ} لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الثَّانِي: {رَبِّ} مُنَادَى مُضَافٌ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ وَالْمُضَافُ إلَيْهَا.
فَأَمَّا حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنْهُ فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لَفْظًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لَازِمِ الْإِضْمَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالرِّيَاشِيُّ إلَى أَنَّهُ نَصْبُ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُفْرَدِ، وَاخْتِيرَ النَّصْبُ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَلَمَّا لَحِقَ الْمُضَافُ مِنْ الزِّيَادَةِ اُخْتِيرَ لَهُ مَا هُوَ أَخَفُّ.
وَقَالَ إنَّ حَرَكَةَ الْمُفْرَدِ إعْرَابٌ، وَخَالَفْنَا فِي ذَلِكَ سَائِرَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ حَرَكَةَ الْمُفْرَدِ بِنَاءٌ، وَقِيلَ النَّاصِبُ لِلْمُنَادَى حَرْفُ النِّدَاءِ نَفْسُهُ، وَلَا فِعْلَ مُضْمَرٍ بَعْدَهُ.
وَرَدَّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكِيبُ كَلَامٍ مِنْ حَرْفٍ وَاسْمٍ.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ النَّاصِبُ الْحَرْفُ عِوَضًا مِنْ الْفِعْلِ النَّاصِبِ فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ، وَقِيلَ أَدَاةُ النِّدَاءِ اسْمُ فِعْلٍ.
وَرُدَّ بِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ إنَّمَا جَاءَ أَمْرًا وَخَبَرًا، وَالنِّدَاءُ غَيْرُهُمَا.
وَقِيلَ النَّاصِبُ لِلْمُنَادَى، مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الْقَصْدُ.
وَرُدَّ بِأَنَّ عَامِلَ النَّصْبِ لَا يَكُونُ مَعْنَوِيًّا.
وَقِيلَ إنَّ الْمُنَادَى إذَا كَانَ صِفَةً كَانَ النِّدَاءُ خَبَرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ إنْشَاءً.
وَهَذَا ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ مُطْلَقًا؛ وَيَا إيَّاكَ قِيَاسٌ، لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ النَّصْبِ، وَيَا أَبَتِ شَاذٌّ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ الْيَرْبُوعِيُّ لِأَبِيهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ فِي عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ يَا إيَّاكَ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ إنَّ يَا فِي إيَّاكَ تَنْبِيهٌ وَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُنَادَى الْمُضْمَرُ أَصْلًا لَا مَرْفُوعًا وَلَا مَنْصُوبًا، وَشَرْطُ الْمُنَادَى الْمُضَافِ أَنْ لَا يُضَافَ إلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ.
لِأَنَّ الْمُنَادَى لَا يَكُونُ إلَّا مُخَاطَبًا.
وَمِنْ تَمَامِ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ أَنَّ إيَّاكَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أَيْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُوا.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ لَا يُنَادَى الْمُضْمَرُ إلَّا نَادِرًا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ أَقْرَبُ إلَى الصِّفَةِ وَالْقِيَاسِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ.
الثَّالِثُ: وَأَمَّا حَذْفُ الْيَاءِ مِنْهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مُنَادَى مُضَافٍ إلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ إضَافَةَ تَخْصِيصٍ، وَقَوْلُنَا إضَافَةَ تَخْصِيصٍ احْتِرَازٌ مِنْ يَا وَأَنْتَ تُرِيدُ الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ فَإِنَّ إضَافَتَهُ إضَافَةُ تَخْفِيفٍ وَإِنَّ فَلَا تُحْذَفُ وَلَا تُقْلَبُ الْيَاءُ وَلَا يُفْتَحُ مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ لَهَا حَظٌّ فِي غَيْرِ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ أَمَّا مَا كَانَتْ إضَافَتُهُ إضَافَةَ تَخْصِيصٍ فَفِيهِ لُغَاتٌ، وَأَفْصَحُهَا حَذْفُ الْيَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ {رَبِّ}.
وَثَانِيهَا: إسْكَانُهَا، وَثَالِثُهَا: قَلْبُهَا أَلِفًا، وَرَابِعُهَا: أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِفَتْحَةِ مَا قَبْلَهَا.
وَهَذَا أَجَازَهُ الْأَخْفَشُ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ فِي غَيْرِ النِّدَاءِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِقِرَاءَةِ حَفْصٍ {يَا بُنَيَّ} وَخَرَّجَهُ الْفَارِسِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ يَا بُنَيْيَ ثُمَّ يَا بُنَيًّا، ثُمَّ حُذِفَتْ الْأَلِفُ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {يَا أَبَتَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَخَامِسُهَا الضَّمُّ كَقِرَاءَةِ حَفْصٍ {قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ} وَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ} وَأَمَّا إعْرَابُهُ فَذَهَبَ الْجُرْجَانِيُّ وَابْنُ الْخَشَّابِ وَالْمُطَرِّزِيُّ وَعَامَّةُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ إلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ جِنِّي لَا مُعْرَبٌ وَلَا مَبْنِيٌّ.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مُعْرَبٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ؛ وَتُقَدَّرُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ الْإِعْرَابِيَّةُ.
وَذَهَبَ ابْنُ مَالِكٍ إلَى أَنَّهُ فِي حَالَةِ الْجَرِّ الْحَرَكَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ وَفِي حَالَةِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مُقَدَّرَةٌ.
وَقَالَ بِهِ فِي الْجَمْعِ.
وَسَبَقَهُ إلَيْهِ فِي الْجَمْعِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ.
الْخَامِسُ: وَدَعَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّرْبِيَةِ.
وَالْمَقَامُ مَقَامُ الِاسْتِعْطَافِ، وَحُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ إشَارَةً إلَى كَمَالِ الْقُرْبِ.
وَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ.
السَّادِسُ: وَقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا وَسَهْوًا، وَتَقْرِيرُهُ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالصَّالِحِينَ فِي تَقْدِيمِهِمْ أَمْرَ الْآخِرَةِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَتَوَاضُعًا وَسُلُوكًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَجَعَلَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً وَمُقَدِّمَةً لِقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} وَأَنَّ هِبَةَ الْمُلْكِ لَهُ أَيْضًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.
السَّابِعُ: أَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو الرَّاءَ فِي اللَّامِ وَبَقِيَّةُ الْقُرَّاءِ أَظْهَرُوهَا.
وَهُوَ أَرْجَحُ عِنْدَ النُّحَاةِ وَنَسَبُوا قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو إلَى الشُّذُوذِ لِأَنَّ الرَّاءَ عِنْدَهُمْ لَا تُدْغَمُ فِي شَيْءٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالرَّاءُ لَا تُدْغَمُ فِي اللَّامِ وَلَا فِي النُّونِ لِأَنَّهَا مُكَرَّرَةٌ وَهِيَ تُفْشَى إذَا كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا فَكَرِهُوا أَنْ يُجْحِفُوا بِهَا فَتُدْغَمُ مَعَ مَا لَيْسَ يَتَفَشَّى فِي الْفَمِ مِثْلُهَا وَلَا يُكَرَّرُ وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ الطَّاءَ وَهِيَ مُطْبَقَةٌ لَا تَجْعَلُ مَعَ التَّاءِ تَاءً خَالِصَةً لِأَنَّهَا أَدْخَلُ مِنْهَا بِالْإِطْبَاقِ فَهَذِهِ أَجْدَرُ أَنْ لَا تُدْغَمَ إذْ كَانَتْ مُكَرَّرَةً.
وَذَلِكَ قَوْلُك اُجْبُرْ لِبَطَّةٍ وَاخْتَرْ نَقْلًا وَقَالَ الْآمِدِيُّ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فِي {يَغْفِرْ لَكُمْ} شَاذَّةٌ.
وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا إخْفَاءٌ وَلَيْسَ بِإِدْغَامٍ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ جَمِيعًا.
الثَّامِنُ: قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قِيلَ إنَّ سَبَبَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَشَأَ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ وَكَانَ وَارِثًا لَهُمَا.
فَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ مُعْجِزَةً.
فَطَلَبَ عَلَى حَسَبِ إلْفِهِ مِلْكًا زَائِدًا عَلَى الْمَمَالِكِ زِيَادَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ.
لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ قَاهِرًا لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً حَتَّى يَخْرِقَ الْعَادَةَ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُرِفَ أَنَّهُ لِأَجْلِ الدِّينِ لَا لِأَجْلِ الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِمَ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ مَصَالِحَ فِي الدُّنْيَا وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَضْطَلِعُ بِأَعْبَائِهِ غَيْرُهُ، وَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ اسْتِيهَابَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْهِبَهُ إيَّاهُ فَاسْتَوْهَبَهُ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْطَبِرُ عَلَيْهَا إلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ عِبَادِهِ.
وَقِيلَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مُلْكًا عَظِيمًا فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقوله: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وَلَمْ يَقْصِد إلَّا عِظَمَ الْمُلْكِ وَسَعَتَهُ كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْفَضْلِ وَالْمَالِ وَرُبَّمَا كَانَ لِلنَّاسِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تُرِيدُ تَعْظِيمَ مَا عِنْدَهُ.
قُلْت هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ يَرُدُّهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَذَكَرْت دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ} وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ.
التَّاسِعُ: {هَبْ} لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُقَالُ هَبْ زَيْدًا مُنْطَلِقًا؛ بِمَعْنَى احْسِبْ.
فَهَذَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى مَفْعُولَيْنِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَاضٍ وَلَا مُسْتَقْبَلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، وَلَا أَدْرَى هَلْ هُوَ مِنْ وَهَبَ أَوْ هَابَ فَإِنَّ الْأَزْهَرِيَّ خَلَطَ التَّرْجَمَتَيْنِ.
وَهَذَا إنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَقْتَضِي أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ مِنْهُ مَاضٍ، وَيُقَالُ بِمَعْنَى الْهِبَةِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ.
وَيُسْتَعْمَلُ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَهَبَ وَفِي الْمُضَارِعِ يَهَبُ وَفِي الْأَمْرِ هَبْ وَهَا هُنَا مَسْأَلَةٌ مَلِيحَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ غَيْرَ الْمَزِيدِ وَلَا الْمَبْنِيَّ لِلْمُغَالِبَةِ إذَا كَانَ مُعْتَلَّ الْفَاءِ بِالْوَاوِ.
وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي فَإِنَّ الْمُضَارَعَةَ أَبَدًا عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، نَحْوَ وَعَدَ يَعِدُ وَيَزِنُ وَزَنَ.
وَيُحْذَفُ الْوَاوُ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ ثُمَّ يُحْمَلُ أَعَدَّ وَيُعِدُّ عَلَيْهِ وَشَذَّتْ لَفَظَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ وَجَدَ يَجِدُ فَجَاءَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَحُذِفَتْ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مَعَ الْكَسْرَةِ قَالَ الشَّاعِرُ لَوْ شِئْت قَدْ نَقَعَ الْفُؤَادُ بِشَرْبَةٍ تَدْعُ الصَّوَادِيَ لَا يَجُدْنَ غَلِيلَا وَجَاءَ يَضَعُ وَجَعَلُوا الْفَتْحَ لِأَجْلِ حَرْفِ الْحَلْقِ فَلِمَ لَمْ يَفْتَحُوا يَعُدُّ لِأَجَلِ حَرْفِ الْحَلْقِ.
فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ يَعُدُّ وَيَهَبُ وَكِلَاهُمَا حَرْفُ حَلْقٍ إنْ كَانَ حَرْفُ حَلْقٍ يَقْتَضِي الْفَتْحَ فَلِمَ لَمْ يَفْتَحُوهَا.
وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ فَلِمَ لَمْ يَكْسِرُوهَا وَلِمَ فَتَحُوا يَضَعُ وَالْمَوْهِبَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ الْهِبَةُ وَبِفَتْحِهَا النُّقْرَةُ فِي الصَّخْرِ، وَالْوَهَّابُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ.
الْعَاشِرُ: الْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ أَبْلُغُ مِنْهُ بِكَسْرِهَا فَإِنَّهُ بِالضَّمِّ يَسْتَدْعِي الْعِزَّ وَالْقُوَّةَ وَبِالْكَسْرِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ.
وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ يُوجَدُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ {لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ} وَنَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَلِكِ الْحَقِيقِيِّ الْمُشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْله تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُلُوكِ الدُّنْيَا.
وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمُلْكَ الَّذِي بِيَدِ الْعِبَادِ هُوَ مِنْ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى آتَاهُمْ مِنْهُ نَصِيبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمْ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِمْ، كَالْمَالِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ.
فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمُلْكِ عَلَى الْعِبَادِ إمَّا لِحُصُولِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ فِيهِمْ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يُطْلِقُ الْقَائِلُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ فَتَكُونُ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ اسْتِعَارَةٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: {لَا يَنْبَغِي} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَسْهُلُ وَلَا يَكُونُ.
كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْمُسْتَحِيلِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُمْكِنِ الَّذِي لَا يَلِيقُ كَمَا تَقُولُ مَا يَنْبَغِي لِفُلَانٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْبَغْيُ: فِي عَدْوِ الْفَرَسِ بِاخْتِيَالٍ وَمَرَحٍ، وَأَنَّهُ يَسْعَى فِي عَدْوِهِ وَلَا يُقَالُ فَرَسٌ بَاغٍ، وَبَغَى عَلَى أَخِيهِ حَسَدَهُ، وَبَغَى عَلَيْهِ ظَلَمَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْحَسَدِ لِأَنَّ الْحَاسِدَ يَظْلِمُ الْمَحْسُودَ جَهْدَهُ؛ وَبَغَى الْحَاجَةَ وَالضَّالَّةَ طَلَبَهَا وَأَبْغَيْتُهُ أَعَنْته عَلَى الظُّلْمِ، وَبَغَتْ الْمَرْأَةُ فَجَرَتْ، وَالْبَاغِي الَّذِي يَطْلُبُ الشَّيْءَ الضَّالَّ وَمَا ابْتَغَى لَك أَنْ تَقُولَ هَذَا.