فصل: (سورة ص: الآيات 6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة ص: الآيات 6- 7]:

{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)}.
{الْمَلَأُ} أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبى طالب بعد ما بكتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالجواب العتيد، قائلين بعضهم لبعض {امْشُوا وَاصْبِرُوا} فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد {إِنَّ هذا الأمر لَشَيْءٌ يُرادُ} أي يريده اللّه تعالى ويحكم بإمضائه، وما أراد اللّه كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه: أو أن دينكم لشيء يراد، أي: يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه. وأَنِ بمعنى أى، لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لابد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول. ويجوز أن يراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وأنهم قالوا: امشوا، أي أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها. ومنه: الماشية، للتفاؤل، كما قيل لها: الفاشية: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «ضموا فواشيكم» ومعنى {وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها، وقرئ: {وانطلق الملأ منهم امشوا} بغير أَنِ على إضمار القول. وعن ابن مسعود: {وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا}.
{فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأنّ النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يجعل في الملة الآخرة حالا من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين.
والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد اللّه.
ما هذا {إِلَّا اخْتِلاقٌ} أي: افتعال وكذب.

.[سورة ص: الآيات 8- 11]:

{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)}.
أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، كما قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوّة من بينهم {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من القرآن، يقولون في أنفسهم: إما وإما. وقولهم {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ، يعنى: أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يعنى ما هم بما لكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها: العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله، كما قال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا} ثم رشح هذا المعنى فقال {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال: وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ} فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت اللّه، وينزلوا الوحى إلى من يختارون ويستصوبون، ثم خسأهم خساءة عن ذلك بقوله: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} يريد ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل اللّه، مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث لما به يهذون. وما مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس:
وحديث ما على قصره

إلا أنه على سبيل الهزء، وهُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست هنالك.

.[سورة ص: الآيات 12- 15]:

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)}.
{ذُو الْأَوْتادِ} أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال:
والبيت لا يبتنى إلّا على عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد

وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار: كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. وقيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه {أُولئِكَ الْأَحْزابُ} قصد بهذه لإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب.
ولقد ذكر تكذيبهم أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها: بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلا وبالاستثنائية ثانيا، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص: أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه، ثم قال {فَحَقَّ عِقابِ} أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم هؤُلاءِ أهل مكة. ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر. أو لأنهم كالحضور عند اللّه. والصيحة: النفخة {ما لَها مِنْ فَواقٍ} وقرئ بالضم: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع. يعنى: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً} وعن ابن عباس: مالها من رجوع، وترداد، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة. وفواق الناقة: ساعة ترجع الدرّ إلى ضرعها، يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

.[سورة ص: آية 16]:

{وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)}.
القط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه إذا قطعه. ويقال لصحيفة الجائزة: قط، لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى {عَجِّلْ لَنا قِطَّنا} أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ} وقيل: ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعد اللّه المؤمنين الجنة، فقالوا على سبيل الهزء: «عجل لنا نصيبنا منها» أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها.

.[سورة ص: الآيات 17- 20]:

{اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)}.
فإن قلت: كيف تطابق قوله {اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} وقوله {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ} حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت: كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر معصية اللّه في أعينهم بذكر قصة داود، وهو أنه نبىّ من أنبياء اللّه تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك، لكرامته عليه وزلفته لديه، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها. على طريق التمثيل والتعريض، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى اللّه عليه وسلم: اصبر على ما يقولون وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم، واذكر أخاك داود وكرامته على اللّه كيف زلّ تلك الزلة اليسيرة فلقى من توبيخ اللّه وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقى ذَا الْأَيْدِ ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه، كان على نهوضه بأعباء النبوّة والملك يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشدّ الصوم، ويقوم نصف الليل. يقال: فلان أيد، وذو أيد، وذو آد. وأياد كل شيء: ما يتقوّى به أَوَّابٌ توّاب رجاع إلى مرضاة اللّه فإن قلت: ما ذلك على أنّ الأيد القوّة في الدين؟ قلت: قوله تعالى {إِنَّهُ أَوَّابٌ} لأنه تعليل لذي الأيد وَالْإِشْراقِ وقت الإشراق، وهو حين تشرق الشمس، أي: تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق. وعن أمّ هانئ: دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: «يا أمّ هانئ هذه صلاة الإشراق». وعن طاوس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} وقال: كانت صلاة يصليها داود عليه السلام. وعنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.
وعنه: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} وكان لا يصلى صلاة الضحى، ثم صلاها بعد. وعن كعب أنه قال لابن عباس: إنى لا أجد في كتب اللّه صلاة بعد طلوع الشمس، فقال: أنا أوجدك ذلك في كتاب اللّه تعالى، يعنى هذه الآية. ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق، ومنه قوله تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} وقول أهل الجاهلية: أشرق ثبير، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق. ويسبحن: في معنى ومسبحات على الحال. فإن قلت: هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت: نعم، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى:
إلى ضوء نار في يفاع تحرق

ولو قال: محرقة، لم يكن شيئا. وقوله مَحْشُورَةً في مقابلة: يسبحن: إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا.
وذلك أنه لو قيل: وسخرنا الطير يحشرن- على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء.
والحاشر هو اللّه عز وجل- لكان خلفا، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ: {والطير محشورة} بالرفع {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أي: لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح: إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب- وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى اللّه وطلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر اللّه ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل: الضمير للّه، أي: كل من داود والجبال والطير للّه أؤاب، أي مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قوّيناه، قال تعالى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} وقرئ {شددنا} على المبالغة. قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل: الذي شدّ اللّه به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة: أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى اللّه تعالى إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه، فقال: هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره اللّه عليه، فقتله؛ فهابوه.
{الْحِكْمَةَ} الزبور وعلم الشرائع. وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة. الفصل: التمييز بين الشيئين. وقيل للكلام البين: فصل، بمعنى المفصول كضرب الأمير، لأنهم قالوا: كلام ملتبس، وفي كلامه لبس. والملتبس: المختلط، فقيل في نقيضه: فصل، أي مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه: أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} إلا موصولا بما بعده، ولا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ} حتى يصله بقوله {لا تَعْلَمُونَ} ونحو ذلك، وكذلك مظانّ العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل، كالصوم والزور، وأردت بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات. وعن علىّ بن أبى طالب رضى اللّه عنه هو قوله: البينة على المدّعى واليمين على المدّعى عليه، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله أمّا بعد لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر اللّه وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه: فصل بينه وبين ذكر اللّه بقوله: أمّا بعد. ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ. ومنه ما جاء في صفة كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فصل لا نذر ولا هذر.

.[سورة ص: الآيات 21- 22]:

{وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)}.
كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا، فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يردّه، ففعل، فتزوّجها وهي أمّ سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك: لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به.
وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأمّا ما يذكر أنّ داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلى إبراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء فأوحى اللّه إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا، فاحترس، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلى ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتدّ إليها، فطارت فوقعت في كوّة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء. أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح اللّه على يده أو يستشهد، ففتح اللّه على يده وسلم، فأمر بردّه مرة أخرى، وثالثة، حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد ابن المسيب والحرث الأعور: أنّ علىّ بن أبى طالب رضى اللّه عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء. وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب اللّه فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك.
وإن كانت على ما ذكرت وكف اللّه عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعى هذا الكلام أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس. والذي يدل عليه المثل الذي ضربه اللّه لقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، أشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطإ فيه من أن يبادره به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة أن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستسمج حال نفسه، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله ومقياسا لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟
قلت: ليحكم بما حكم به من قوله {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ} حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه {وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه. والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع، كالضيف. قال اللّه تعالى {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصما، كما تقول: ضافه ضيفا. فإن قلت: هذا جمع. وقوله {خَصْمانِ} تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: {خصمان بغى بعضهم على بعض} ونحوه قوله تعالى {هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. فإن قلت: فما تصنع بقوله {إِنَّ هذا أَخِي} وهو دليل على اثنين؟
قلت: هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت: فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعا خصما في قوله {نَبَأُ الْخَصْمِ} و{خَصْمانِ}؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب إِذْ؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبإ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك، لأن إتيان النبأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبإ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح إتيانه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وإن أردت بالنبإ: القصة في نفسها لم يكن ناصبا، فبقى أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى {تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ} تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية: تسنمه، إذ علا سنامه، وتذرّاه: إذا علا ذروته. روى أنّ اللّه تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} قال ابن عباس: إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بنى إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم، ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه {خَصْمانِ} خبر مبتدإ محذوف، أي: نحن خصمان {وَلا تُشْطِطْ} ولا تجر. وقرئ: {ولا تشطط} أى: ولا تبعد عن الحق. وقرئ: {ولا تشطط} {ولا تشاطط} وكلها من معنى الشطط: وهو مجاوزة الحدّ وتخطى الحق. و{سَواءِ الصِّراطِ} وسطه ومحجته: ضربه مثلا لعين الحق ومحضه.