فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.
وجه الفصل كونها جملة خبرية والأولى طلبية فلذلك لم يعطفها عليها.
قال ابن مالك: وإلا فالقاعدة أن الجملتين إذا كانتا متقاربتين في المعنى لم يعطف.
قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}.
ابن عرفة هذا كما قال غير مرة: إن من أكثر ما وردت لَمْ في القرآن لنفي الماضي المتصل بزمن الحال قال: وأو هنا بمعنى الواو. كما قال ابن راشد، وهو الصحيح، لأنها إذا كانت على بابها أعني للتنويع لزم نفي الجناح عمن طلق بعد الدخول في نكاح التفويض، وإذا اكانت بمعنى الواو فيكون المراد برفع الجناح بسقوط نصف الصداق بالطلاق.
قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}.
قال ابن عرفة: إنما عطف هذه وهي أمر على ما قبلها وهي خبر لأن قبلها تضمن حكم الطّلاق وهو سبب في الأمر بالمتعة والسببية ظاهرة فلذلك عطفت بالواو ولو كانت خفية لعطفت بالفاء.
قال ابن عرفة في مختصره الفقهي: المتعة ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه إياها، والمعروف أنّها مستحبة يؤمر بها ولا يقضى بها ولا تحاصص.
قال ابن زرقون في المبسوط عن محمد بن مسلمة هي واجبة يقضي بها لأنه لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا المتقين إلاّ رجل سوء.
قال ابن عرفة: ولأن رأي المتقدمين أن المؤمن والمتقي متساويان ولأن قوله: {حَقًّا عَلَى المتقين} يقتضي عموم تعلقها بكل مسلم لأنه متق الشرك وقوله: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} مفهومه عدم تعقلها بمن ليس بمحسن من المسلمين فيتعارض العموم والمفهوم والأصح عند الأصوليين أن العموم مقدم ونقله اللَّخمي ولم يعزه وعزاه الإمام ابن عبد السلام لابن حبيب.
قال ابن عرفة: قال أبو عمران: إنما يقدر حال المرأة، وابن عبد البر يقدر حال الرجل وابن رشد يقدر حالهما.
قال ابن عرفة: وهي لكل مطلقة في عصمة لا رجعة فيها ولا خيار على الزوج.
وفي المدونة ما نصّه: لا متعة لمختلعة ولا مصالحة ولا ملاعنة ولا مطلقة قبل البناء.
وقد فرض لها اللخمي. ولا مفتدية ولا متبارية ولا من اختارت نفسها لعتقها ولا من فسخ نكاحها ولم تعارض.
قال الإمام ابن رشد: ظاهر قول ابن القاسم إن طلّق فيما يفسخ بطلاق فسخه، فلا متعة عليه.
اللخمي: إن فسخ الرضاع بأمر الزوج رأيت عليها المتعة وإن اشترى زوجته لم يمتعها لبقائها معه ولو اشترى بعضها متّعها، وأما المخيرة والمملكة فقال الإمام ابن رشد: روى ابن وهب: أنّ لهما المتعة.
وقال ابن خويز منداد: لا متعة لهما، وقال ابن يونس: لمن اختارت نفسها بتزويج أمة عليها المتعة، انتهى.
قال ابن عرفة: المطلقة لا متعة لها في البائن دون الرجعي فإن ماتت في العدة فالظاهر أن المطلق يرث من تلك المتعة.
قيل لابن عرفة: لا يرث لأنّه إذا كان الطلاق بائنا فلا متعة ولا ميراث، وإن كانت رجعية فقد ماتت قبل أن تجب لها لأنها إنّما تجب لها بعد انقضاء العدة؟
فقال إنّما أجّلنا المتعة بانقضاء العدة رجاء أن يرتجعها قبل تمامها فإذا ماتت ذهبت تلك العدة.
قيل لابن عرفة: إنما هي جبر لقلبها ففي الموت لا متعة؟
فقال: قد قالوا: إنّها تجب.
وقرئ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}. واستشكلها ابن عرفة بحذف المجرور. وقد انتقد القرافي على الفخر الرازي تسميته كتاب المحصول، لأن اسم المفعول من الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف الجر لا يجوز أن يحذف مجروره، وأجابوا: بأن ذلك اسم عَلَمٍ سمّاه بالمحصول كما قال تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} لكن ذلك الجواب لا يتصور هنا.
وأجيب: بأن هذا يتعدى بنفسه تقول: وسعت المكان والدار والطريق ووسعت الأمر:
- قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض}- وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}.
نحن نلاحظ أن الكلام فيما تقدم كان عن الطلاق للمدخول بها، أو عن المرأة التي دخل بها زوجها ومات عنها. ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلاق لامرأة غير مدخول بها. وتأتي هذه الآية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها، وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقًا، وإما أن يكون قد فرض لها صداقًا.
والطلاق قبل الدخول له حكمان: فرضت في العقد فريضة، أو لم تفرض فيه فريضة، فكأن عدم فرض المهر ليس شرطًا في النكاح، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح. ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: {ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج بها. ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول: فيه مس، وفيه لمس، وفيه ملامسة. فالإنسان قد يمس شيئا، ولكن الماس لا يتأثر بالمسوس، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد، وإلى غير ذلك.
أما اللمس فلابد من الإحساس بالشيء الملموس، أما الملامسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين. إذن فعندنا ثلاث مراحل: الأولى هي: مس. والثانية: لمس. والثالثة: ملامسة. كلمة: المس هنا دلت على الدخول والوطء، وهي أخف من اللمس، وأيسر من أن يقول: لامستم أو باشرتم، ونحن نأخذ هذا المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصا في معنى، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة المس هنا، فقد قالت السيدة مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} من الآية [20 سورة مريم].
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحدًا من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافًا حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات عفة مريم. ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.
والحق يقول: {أو تفرضوا لهن فريضة} وتعرف أن {أو} عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني إما هذا وإما ذاك، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟. إن الأصل المقابل في {ما لم تمسوهن} هو أن تمسوهن. ومقابل {تفرضوا لهن فريضة} هو: أن لا تفرضوا لهن فريضة. كأن الحق عز وجل يقول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني.
ولنا أن نلاحظ أن الحق قد جاء بكلمة إن في احتمال وقوع الطلاق، وإن- كما نعرف- تستخدم للشك، فكأن الله عز وجل لا يريد أن يكون الطلاق مجترءًا عليه ومحققًا، فلم يأت بإذا، بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» رواه ابوداود والبيهقى والحاكم عن ابن عمر. ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك: «ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره» أي إنك إذا طلقت المرأة قبل الدخول، ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة. وقال العلماء في قيمة المتعة: إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها من النساء؛ لأنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر، ومادام لم يحدد لها مهر فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء. ويقول الحق: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني: عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له، والمقتر الفقير: عليه أن يعطي في حدود طاقته.
وقول القرآن: {الموسع} مشتق من أوسع واسم الفاعل موسع واسم المفعول موسع عليه، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو موسع عليه، وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك، فهو موسع. إذن فالموسع: هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة. والإقتار هو الإقلال، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة. والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكمًا تكليفيًا لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب، ولكنه يوزع المسئولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} يعني إذا وجد من لا يفعل حكم الله فلابد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها. والجمع في الأمر وهو قوله: {ومتعوهن} دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم الله. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعًا من الفصاحة، وضروبًا من علم البيان والبلاغة.
الكناية في: أن تمسوهنّ، والتجنيس المغاير، في: فرضتم لهنّ فريضة، والطباق في: الموسع والمقتر، والتأكيد بالمصدرين في: متاعًا وحقًا، والاختصاص: في: حقًا على المحسنين، ويمكن أن يكون من: التتميم، لما قال: حقًا، أفهم الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم المعنى، وبيَّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم التعميم، وبين أنه من باب التفضل والإحسان، لا من باب الإيجاب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}.
قوله: {مَا لَمْ} في مَا ثلاثة أقوالٍ:
أظهرها: أن تكون مصدريةً ظرفيةً، تقديره: مدَّة عدم المسيس، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107] وقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117].
وقول الآخر: الكامل:
إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ** وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي

مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ** يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي

والثاني: أن تكون شرطيةً، بمعنى إِنْ نقله أبو البقاء.
وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثانى قيدًا في الأول؛ نحو: إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ أي: إن أتيت محسنًا، وكذا في الآية الكريمة: إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ، بل الظاهر: أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ مَا الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة، ولذلك تقتضي التعميم.
والثالث: أن تكون موصولة بمعنى الَّذِي، وتكون للنساء؛ كأنه قيل: إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ مَا الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف بالَّذِي، والَّتي، وفروعهما.
وقرأ الجمهور: {تَمَسُّوهُنَّ} ثلاثيًّا وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20].
وقرأ حمزة والكسائيُّ في الأحزاب {تُمَاسُّوهُنَّ} من المفاعلة، فيحتمل أن يكون فَاعَلَ بمعنى فَعَلَ كسَافَرَ، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]، وأيضًا: فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانيةٌ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو: نَكَحَ، فَرَعَ، سَفَدَ، وضَرَبَ الفَحْلُ.
قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 74]، وقال: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، وأمّا قوله في الظّهار: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] فالمراد به المماسَّة التي هي غير الجماع، وهي حرام في الظهار.
قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أنه مجزوم عطفًا على {تَمَسُّوهُنَّ}، و{أَوْ} على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطيَّة.
والثاني: أنه منصوب بإضمار أَنْ عطفًا على مصدر متوهِّم، وأَوْ بمعنى إلاَّ، التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم: لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي قاله الزمخشريُّ.
والثالث: أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيفٌ جدًّا، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ لم موجودًا قبل ذلك.
والرابع: أن تكون أَوْ بمعنى الواو.
قال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] أي: وهم قائلون {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: ويزيدون، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} [النساء: 43] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط، وأنتم مرضى أو مسافرون.
قال ابن الخطيب: فإذا تأمَّلت هذا القول، علمت أنّه متكلفٌ، بل خطأٌ قطعًا، والفرض في اللغة: التقدير، أي: تقدِّروا لهن شيئًا.
قوله: {فَرِيضَةً} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعولٌ به، وهو بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئًا مفروضًا.
والثاني: أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضًا، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال: وأَنْ يكونَ مفعولًا به، وهو الجَيِّدُ والموصوف محذوفٌ، تقديره: متعةً مفروضةً.
قوله: {علَى الموسع قَدَرُهُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وفيها قولان:
أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره.
والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل {مَتِّعُوهُنَّ}.
قال أبو البقاء: تقديره: بقَدر الوُسْعِ، وهذا تفسير معنًى، وعلى جعلها حاليةً: فلابد من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ، تقديره: على المُوسِع مِنْكُمْ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم: أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه، تقديره: عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ.
وقرأ الجمهور: {المُوسِعِ} بسكون الواو وكسر السين، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين، اسم مفعولٍ من وَسَّعَ.
وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً: {قَدَرهُ} بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها.
واختلفوا: هل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ، حكى أبو زيدٍ: خُذْ قَدَرَ كَذَا وقَدْرَ كَذَا، بمعنًى واحدٍ، قال: ويُقْرَأُ في كتاب الله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، وقَدْرِهَا، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حركت الدال، لكان جائزًا.
وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد، والمدِّ والمدد، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع، يقال: هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ أي وسعه، وقيل: بالتَّسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، قال أبو جعفر: وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ، إذا كان مساويًا للشيء، يقال: هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا.
وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوبًا على المعنى.
قال أبو البقاء: وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى {مَتِّعُوهُنَّ} لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ وشرح ما قاله: أن يكون من باب التضمين، ضمَّن {مَتِّعُوهُنَّ} معنى {أَدُّوا}.
والثاني: أن يكون منصوبًا بإضمار فعلٍ، تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره، وجعله أبو البقاء أجود من الأول، وفي السَّجاونديِّ: وقال ابن أبي عبلة: قَدَرَهُ، أي: قَدَرَهُ اللهُ انتهى.
وظاهر هذا: أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون قَدَرَهُ فعلًا ماضيًا، وجعل فيه ضميرًا فاعلًا يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من {مَتِّعُوهُنَّ}، والمعنى: أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.
قوله: {مَتَاعًا} في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع، فهو من باب: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17].
وقال أبو حيَّان: قالوا: انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ: أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسمٌ له، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز، والعامل فيه: {وَمَتِّعُوهُنَّ} قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر، فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم: تِرْبًا وَجَنْدَلًا وأَقَائِمًا، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ، والصحيح أن تِرْبًا ونحوه مفعولٌ به، وقائمًا نصبٌ على الحال.
والثاني من وجهي مَتَاعًا أن ينتصب على الحال، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعًا.
قوله: {بالمعروف} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق ب {مَتِّعُوهُنَّ}، فتكون الباء للتعدية.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {مَتَاعًا}؛ فيكون في محلِّ نصبٍ، والباء للمصاحبة، أي: متاعًا ملتبسًا بالمعروف.
قوله: {حَقًّا} في نصبه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك: هَذَا ابْنِي حَقًّا وهذا المصدر يجب إضمار عامله، تقديره: حَقَّ ذلك حقًّا، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله.
والثاني: أن يكون صفةً ل {مَتَاعًا}، أي: متاعًا واجبًا على المحسنين.
والثالث: أنه حالٌ ممَّا كان حالًا منه {مَتَاعًا} وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال.
والرابع: أن يكون حالًا من {المَعْرُوفِ}، أي: بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين، و{عَلَى المُحْسِنِينَ} يجوز أن يتعلَّق ب {حَقًّا}؛ الواجب، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له. اهـ. باختصار.